حسين سالم، اسم لم تسمعه الغالبية الساحقة من المصريين أصلاً إلا بعد الثورة، ليكتشفوا أن رجل الأعمال الغامض البعيد تماماً عن الأضواء، هو ضابط مخابرات سابق، وصاحب دور رئيسي في السياسة والاقتصاد المصريين.
فجأة عاد سالم للظهور في حوار مفاجئ لصحيفة "المصري اليوم"، متحدثاً عن بعض أسرار عمله مع المخابرات المصرية، ورغم أنه لم يتكلم إلا بأقل القليل، لكن هذا كان كافياً لتعمّ الصدمة.
ابحث عن المخابرات
من المتداول في مصر، وجود علاقة لجهاز المخابرات بأنشطة اقتصادية ما، لكن حسين سالم فجر مفاجأة كُبرى بقوله إن هناك إدارة خاصة بالمخابرات تعمل منذ حرب الاستنزاف في الستينيات، وحتى اليوم، متخصصة في عمل منظمات ومؤسسات، تقوم بتوفير تمويل المخابرات خارج الميزانية الرسمية. واعتبر سالم ذلك عملاً وطنياً وطبيعياً تلجأ إليه مخابرات العالم، وضرب مثالاً بقوله: "أتذكر مثلاً أننا اشترينا شقة لجاسوس جزائري، كانت مصر تجنده في جنيف، وكان يذهب إلى إسرائيل، كيف سيثبت ذلك في الموازنة؟".
ومن هذه النقطة انطلق للحديث عن كل أعماله الشهيرة، فقال إنه اتجه إلى شرم الشيخ منذ العام 1988 بالتعاون مع رئيس جهاز "الخدمة السرية" بالمخابرات الراحل محمد نسيم، فأنشأ البنية التحتية؛ كرصف الطرق ومحطة تحلية المياه، ثم بعض أهم فنادقها، ومنها منطقة خليج نعمة السياحية. وأضاف: "ألم تروا عظمة المشروعات التي نفذتها لصالح مصر، ومنها قاعة المؤتمرات في شرم الشيخ، التي بنيناها في 8 شهور، وأهديتها للمخابرات مع الفندق المجاور لها، فعلى ماذا أحاسب؟!".
وبذات النمط، تحدّث عن قضية شركات الغاز: "كلفنى الجهاز بتأسيس شركة الشرق للغاز لتصدير الغاز إلى الأردن، وتنازلت عن أسهمي في الشركة، وكل ما دفعته فيها للمخابرات دون مقابل وعن طيب خاطر، ثم كُلفت بتأسيس شركة البحر الأبيض المتوسط للغاز لتصدير الغاز إلى إسرائيل". وذكّر بأن شهادة مديريّ المخابرات؛ اللواء عمر سليمان واللواء موافي، أكدت أن هذا المشروع كان لـ"دواعي الأمن القومي، بغرض منح مصر قوة في التفاوض على الملف الفلسطيني، وليس لأغراض اقتصادية لتحق عليه حسابات المكسب والخسارة"، وبناء عليه حكمت المحكمة بالبراءة.
كما لم ينس الإشارة إلى مشاريع أقل شهرة نفذها مع المخابرات أيضاً، كأبراج النزهة التي أنشأ بها 1500 وحدة سكنية لضباط القوات المسلحة، ومصفاة بترول ميدور بالاسكندرية.
من أين لك هذا؟
لكن سالم تحدث عن حقائق مبتورة، فإذا كانت المخابرات هي من تملك كل شيء، فمن أين أتت ثروته الشخصية، التي قال إنها تبلغ 8 مليارات جنيه (1.1 مليار دولار)؟ ولماذا يعرض الآن التصالح مقابل التنازل عن نصفها فقط، فليتنازل عنها كلها لمالكها الأصلي إذاً، فهو مجرد "واجهة للمخابرات"، كما قال.
أما إذا صدقنا تأكيده بأن ثروته الشخصية هي نتيجة أعماله وارتفاع أسعار الأراضي، ولم يحصل على أي مزايا خاصة من مبارك، فلماذا تنازل طيلة مسيرته عن أعمال طائلة للمخابرات، والآن يعرض التنازل للدولة؟
والخلاصة هنا؛ أين هي الحدود بين أموال سالم الشخصية وأموال المخابرات التي يديرها بالنيابة عنها؟
الناقل الحصري للأسلحة الأميركية
قصة مبتورة أخرى، في غاية الخطورة ذكرها سالم، وهي أن وزارة الدفاع الأميركية، في زمن توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" التي نصت على المعونة العسكرية لمصر، كانت ستتولى نقل السلاح بقيمة 26 في المئة من الصفقة. فطلبت المخابرات المصرية من سالم دخول المناقصة، بشركة أنشأها لهذا الغرض، وفاز بها بسعر 6.5 في المئة.
نتحدث هنا عن رقم هائل، فبحساب النسبة من المعونة العسكرية السنوية البالغة 1.3 مليار، سيصبح مجموع تكاليف النقل على مدار 35 عاماً على الأقل أكثر من 410 مليون دولار (حوالي 3.5 مليار جنيه).
هنا تجاهل سالم تماماً توضيح مصير هذه الأرباح الهائلة، هل دخلت إلى جيبه الشخصي؟ هل ذهبت إلى المخابرات التي منحته ذلك الحق بالأمر المباشر؟
ثم ماذا حدث بعد الثورة، هل ما زالت شركته هي من تقوم بنفس العمل أم تغيّر الوضع؟
المغالطات في قصة الفيلات
وهذه قصة أخرى مبتورة ومغلوطة أيضاً؛ يؤكد سالم أن القضاء المصري أنصفه في قضية تقديمه فيلات شرم الشيخ كرشوة للرئيس المخلوع حسني مبارك وأبنائه، وقال "ثبت في محاكمة القرن أن مبارك اشترى الفلل بسعر أعلى من سعر السوق".
لكن بالعودة إلى حيثيات الحكم الذي أصدرته المحكمة تحت عنوان "التبيان"، لا نجد ذلك سبب البراءة مطلقاً، بل بالعكس، المفاجأة أن القاضي يؤكد وقوع الجريمة، وأن سالم منح الفيلات الخمس لمبارك كـ"عطية، استغلالاً لنفوذه". لكن القاضي أسقط التهمة بسبب انقضاء الفترة القانونية للدعوى؛ فتسجيل الفيلات بالشهر العقاري تم في العام 2000 وبالتالي تنتهي فترة السقوط بالتقادم في العام 2010.
قاضي الدرجة الأولى تعامل على أن تاريخ الواقعة هو من لحظة تسلم مبارك وأبنائه للفيلات بعد تشطيبها، أما قاضي الاستئناف فالتزم بنصوص الأوراق وتاريخ التسجيل بالشهر العقاري، لكن كلاهما أثبت وقوع الجريمة.
وبالطبع لا إشارة مطلقاً في القضية بأن مبارك دفع ثمن الفيلات.
السعر المناسب "لبيع مصر"
رداً على سؤال عادي جداً هو "لماذا حسين سالم هو من يتعرض لكل هذه الاتهامات؟"، فاجأ سالم المصريين بإجابة غير عادية: "الحقد هو السبب.. والعملية كلها كانت أيام كمال حسن على (وزير الدفاع الأسبق) عندما جاء لي وقال أثناء مفاوضات كامب ديفيد إن الرئيس الأميركى أعطانا 500 مليون دولار، فقلت له أنت تبيع مصر وقضية السلام بـ500 مليون؟ عايزين مليار، وفى اليوم الثاني قال لي إن كارتر زاد المبلغ إلى 1500 مليون فقلت له لا تقترب من المبلغ وادفعه (down payment) فأنا تاجر!".
أثارت الواقعة دهشة وسخرية رواد مواقع التواصل الإجتماعي، مثلاً الباحث في "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" كريم عنارة، قال إن العبارة تستحق "جائزة التصريح الصحافي الأكثر جرأة وبجاحة، منذ ظهور الجرائد اليومية في مطلع القرن الثامن عشر أو منذ إختراع الكتابة".
خطاب عاطفي جديد
حاول سالم مخاطبة عواطف الجمهور، بطريقة تذكرنا بما فعله رئيسه مبارك.
طيلة الحوار، كرر سالم أنه "خدم مصر طيلة حياته"، وكان دافعه الدائم هو الوطنية، وجزاؤه الآن هو تدهور صحته في ظل ظروف حياته الصعبة: "أنا بشحت أنا وأولادي وأعيش على المعونات من أصدقائنا في أبوظبي، وهذا ممكن أن يتوقف في أي وقت، فمن أين سنعيش أنا وأولادي وأحفادي، نحن 15 فرد هنا".
ولم يفت سالم الإشارة بذكاء إلى اسم الراحل محمد نسيم، الذي تعاون معه لإنشاء شرم الشيخ. فنسيم شخصية معروفة بكونه الضابط الأسطوري المسؤول عن بعض أشهر عمليات المخابرات المصرية، مثل قيادة عملية تفجير حفار أبيدجان، والإشراف على الجاسوس المصري رفعت الجمال (رأفت الهجان في المسلسل الشهير).
ماذا لو؟
أكثر ما أثار الاستنكار في حوار سالم، هو رد الفعل المحدود من الإعلام المصري عليه؛ بعض البرامج والمذيعين الذين تخصصوا في توزيع اتهامات الخيانة على النشطاء الشباب، لمجرد عملهم في مؤسسة تتلقى تمويلاً خارجياً، أو لمجرد سفرهم لحضور مؤتمر في دولة أخرى صمتوا تماماً، بينما سالم يكرر "أنا مواطن أسباني".
هذا المواطن الأسباني كان يتعامل في قضايا الأمن القومي بهذه الأريحية، وهذا المواطن الأسباني يقول إنه توسط لرفع سعر "بيع مصر" وقت كامب ديفيد. لو كان المتحدث هو البرادعي مثلاً لانطبقت السماء الإعلامية على الأرض.
لماذا الآن؟
يبدو أن سالم قد سئم من كونه أحد آخر رموز نظام مبارك الذين ما زالت لهم قضايا منظورة أمام القضاء، وما زال يعيش في حصار كبير، وترفض الدولة التصالح الاقتصادي معه أسوة بغيره.
يُلمح سالم الى وجود تدخل من أطراف في الدولة، وأن ثورة يناير كان يمكن للجيش كبتها كما حدث في الثمانينات على يد المشير أبو غزالة، لكن "هناك من كانت مصلحته أن يذهب مبارك وقالوا كفاية".
جلسة النطق بالحكم في قضية التحفظ على أموال سالم تقترب، ستكون في 17 أيار/مايو، والإشارت قبلها لا تطمئنه.
في 22 أذار/مارس، جدّد الاتحاد الأوروبي تجميد أموال سالم لمدة عام إضافي بناء على طلب مصري، وفي 28 نيسان/أبريل تسلمت نيابة الأموال العامة تقرير خبراء وزارة العدل، عن قضية جديدة تتهم سالم بالاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على 41 مليون دولار في مشروع مصفاة ميدور. وفي 29 نيسان/أبريل اتهمت النيابة سالم بالتورط في قضية القصور الرئاسية في مرافعة إعادة محاكمة آل مبارك بها.
وبعيداً عن السياسة، للدولة المصرية أسباب اقتصادية بحتة لرفض التصالح مع سالم، فشركة الكهرباء الإسرائيلية تطالب مصر في التحكيم الدولي بـ4.8 مليار دولار، تعويضاً عن انقطاع الغاز. بينما تطالب شركة شرق المتوسط بـ8 مليارات دولار. وحجة مصر الأساسية للدفاع هي فساد عقود الغاز بقضايا حسين سالم.
ربما كان حوار سالم الجريء تلميحاً لما يمكن له أن يكشفه، لو لم يتم قبول التصالح معه.
وربما التفسير أبسط من ذلك؛ فسالم مجرد شخص مسنّ فقد نفوذه، ومعه بدأ يفقد توازنه ولباقته السياسية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها