فجأة امتلأت وسائل الإعلام المصرية، ومواقع التواصل الإجتماعي، بنقاشات مطولة حول دعوة لخلع الحجاب، أطلقها الكاتب شريف الشوباشي، وسرعان ما تضخمت كرة ثلجها بشكل غير مسبوق.
كيف تصنع فقاعة إعلامية؟
بدأ كل شيء في 6 نيسان/أبريل، الشوباشي كتب في صفحته بموقع التواصل الإجتماعي "فايسبوك": "هل هناك فتاة أو سيدة في مصر مستعدة أن تكرر ما صنعته هدى شعراوي عام 1923، فتقوم بخلع الحجاب في قلب ميدان التحرير؟.. أرجو من الأصدقاء التفكير جدياً في هذا، واقتراح إمكانية تنفيذه، لتوجيه ضربة جديدة موجعة للإسلام السياسي".
الشوباشي ليس معروفاً على المستوى الشعبي إطلاقاً، لم يسمع أحد باسمه خارج الوسط الثقافي والصحافي، وحتى ليس له أي أهمية نقدية خاصة؛ فلم يحصل على جوائز أدبية مرموقة مثلاً. لذلك كان من الطبيعي ألا يسمع أحد بما قاله أصلاً.
في 7 نيسان/أبريل، نشرت شبكة "رصد" المقربة من "الإخوان المسلمين" تقريراً قصيراً عن الموضوع بعنوان "علمانيون يدعون لمليونية لخلع الحجاب".
مرت أيام طويلة لم يُنشر بها خبر واحد عن الموضوع، ولم يعرف به مخلوق خارج قائمة أصدقاء الشوباشي ومن شاهد موضوع شبكة "رصد". كان يمكن أن يختفي الموضوع تماماً عند هذا الحد.
فجأة وبلا أي مبرر، وفي 12 نيسان/أبريل، نشر موقع جريدة "اليوم السابع" الخبر للمرة الأولى في الصحافة المصرية، بعنوان مثير للغاية: "
شريف الشوباشى يدعو لمظاهرة (خلع الحجاب) فى التحرير: فتيات مصر تعرضن للإرهاب والترويع من أجل الحجاب.. وقيادات سلفية تطالب الأزهر بالتدخل ضد دعوات التبرج".
وعند قراءة الخبر، نجد أن كل المصادر فيه، هي تصريحات خاصة بـ"اليوم السابع". يمكن تخيل المشهد هكذا: الزميل المحرر يتصل بالشوباشي وهو يعرف مسبقاً ما سيقوله، ثم يكلم شيوخاً يخبرهم بأن هناك دعوة جديدة خطيرة وهو يعرف مسبقاً ما سيقولون، ثم يكتب العنوان اللاذع الذي يغازل ثلاثية (الدين، السياسة، الجنس). مبروك. أصبح موضوعك من أهم أحداث مصر!
حالياً تدور نقاشات في الوسط الصحافي المصري، حول أضرار تنافس المواقع الإخبارية على ترتيب المشاهدة، والذي يُترجم لترتيب الدخل الإعلاني، وهو ما بات يعرف بـ"صحافة الترافيك". "الترافيك" وحش مرعب يجب أن نلقي له باستمرار ما يبتلعه، ولو لم يكن هناك أحداث ساخنة سنقوم بتسخين بعضها بأنفسنا.
وبالفِكر نفسه قام برنامج البيت بيتك على قناة "ten" باستضافة الشوباشي في 14 نيسان/أبريل، لتنتقل المعركة إلى القنوات الفضائية للمرة الأولى. هكذا تستفيد هذه المحطة الفضائية الجديدة، وبرنامجها الجديد والقائمون عليه، من نوع آخر من "الترافيك".
الشوباشي صانع أم مصنوع؟
العديد ممن دخلوا حلبة النقاش الحالية، أعادوا التذكير بكتاب الشوباشي "تحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه" الذي أثار ضجة إعلامية شبيهة في العام 2004، واعتبروا أن الرجل باحث عن الشهرة والأضواء، وهذه وسيلته للوصول إليها.
الاحتمال وارد، وبالفعل لو كان الشوباشي اختار لكتابه عنواناً آخر، أقل إثارة، لما التفت إليه أحد.
لكن الأرشيف يخبرنا أيضاً أن الكتاب وصاحبه لم يحظيا بأي انتشار، إلا بعد أن أثار نواب الإخوان، القضية، في مجلس الشعب، وطالبوا وزير الثقافة فاروق حسني، بمصادرة الكتاب الصادر عن هيئة حكومية، باعتباره "يسفه لغة القرآن بغير حق". النائب الإخواني حمدي حسن، قال خطبة عصماء حول بلاغة وإعجاز لغة القرآن، ووصف ما يطالب به الشوباشي بأنه "ما يطالب به المحتل الغازي".
نائب الإخوان، بوعي أو بغير وعي، كان يُطبق بدوره نموذجاً مبكراً جداً من أسلوب "الترافيك" الشعبوي. ببساطة لو كان الغرض الفعلي هو دفن ذلك الكتاب، لكان التصرف الأنسب هو الصمت!.
أثناء البحث عن تاريخ الشوباشي، نجدُ مفاجأة مذهلة: الرجل هو مدير مكتب سابق لصحيفة "الأهرام"، في باريس. وهو متهم بالفساد في قضية "هدايا الأهرام"، حسبما ذكر نائبه الأكاديمي المرموق سعيد اللاوندي، والذي نشرت صحيفة "الوطن" في كانون ثاني/يناير 2013
شهادته المدوية.
كان الشوباشي يتولى مهمة شراء هدايا بمبالغ خيالية، يتم توريدها لرئاسة الجمهورية ومكاتب المسؤولين، وتشمل كل شيء بدءاً من الأقلام الذهبية والعطور الفخمة وحتى غرف النوم. قبلت النيابة "التصالح" في القضية مع إعادة المسؤولين لقيم ما تقاضوه، على سبيل المثال أعاد آل مبارك 20 مليون جنيه، وأعاد رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف، مبلغ مليون جنيه.
لهذه الأسباب بقى الشوباشي مديراً للمكتب 22 عاماً، والعهدة على الراوي سعيد اللاوندي، الذي ذكر التفاصيل من دون اسمه الصريح.
لماذا قبلت النيابة التصالح في هذه القضية الضخمة؟ لماذا لم يتم تحريك الدعوى الجنائية ضد المتورطين جميعاً، وكنا سنسمع وقتها اسم الشوباشي في سياق مختلف تماماً؟ لماذا لم يهتم الإعلام والشخصيات العامة بنفس القدر بهذه القضية؟
المزايدة الدينية
كعادتها، بدأت التيارات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان التحريض باستخدام خطاب "الحرب على الإسلام". وصل التحريض قمته بإفتاء الشيخ وجدي غنيم، على قناة "رابعة" الإخوانية، بأن الداعين لخلع الحجاب قد ارتدوا عن الإسلام.
لكن هذه المرة كان المعسكر الآخر، الموالي للنظام وللرئيس عبد الفتاح السيسي، بكل أطيافه، جاهزاً لهجمة مضادة ساحقة: مقدم البرامج قي محطة "أون تي في" جابر القرموطي، قال: "هذا تطرف يوازي تطرف الإخوان وألعن". المذيع الرياضي والمرشح السابق عن "الحزب الوطني" لمجلس الشعب، أحمد شوبير، قال: "إحنا بنحب الحشمة، لو مش عاجبك خلي بنتك تمشي بالمايوه في الشارع". المذيعة في قناة "النهار" ريهام سعيد، علّقت: "أنا مش محجبة وبرفض قلع الحجاب.. السيدة مريم العذراء ظهرت في كافة صورها محجبة، كل قديسين المسيحية صورهم حاطين الحجاب، إزاي تطلبوا من المسلمة تخلع الحجاب؟". المذيع تامر أمين على قناة "روتانا مصرية" قال: "دعوة مجنونه .. الشعب المصري وصف الفكرة بالمنحلة والشاذة".
وبدورهم لم يُقصر السياسيون الموالون للنظام: عضو البرلمان السابق، صاحب المعارك الشهيرة ضد رموز الثورة مصطفى بكري، قال: "لا أنت ولا غيرك لكم الحق فى التحريض على خلع الحجاب فى التحرير، وكأننا نظهر كل فتاة ترتدى الحجاب على إنها متخلفة، التحريض على خلع الحجاب لايقل عن التحريض على العنف". تيار الإستقلال برئاسة المستشار أحمد الفضالي، المتهم بالتورط في موقعة "الجمل" خلال الثورة، قال: "الإعلام يروج حالياً لظواهر سلبية، ودعوات غريبة على أخلاق وقيم المصريين، الدعوة لا تقل تطرفاً عن أفكار داعش والإرهابيين".
وبدوره لم يبخل المستشار مرتضى منصور، على جماهيره بـ"لقطة" صاخبة كعادته، فتحدث في مداخلة مع الشوباشي، سائلاً إياه إن كان يشرب الخمر؟
أما رجال الدين المؤيدين للنظام فكانوا الأكثر حماسة. فقال الشيخ خالد الجندي: "أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً.. الشوباشي عنده حالة نفسية". في حين أن أستاذ الشريعة بالأزهر الشيخ أحمد كريمة، أوضح: "هذه الدعوة تنتقل من الفاشية الدينية إلى الليبرالية الفاجرة التى تريد الإباحية فى المجتمع". وكيل الأزهر عباس شومان، قال: "الحجاب من الأمور الشرعية التي لا تقبل الاجتهاد..الدعوة لخلع الحجاب تدخل سافر واعتداء صريح على حرية وكرامة المسلمة". الشيخ سالم عبدالجليل، أشار إلى أن: "اللي اختشوا ماتوا".
وحتى محامي الكنيسة المصرية الأرثوذوكسية نجيب جبرائيل، لم يتأخر تعليقه: "نرفض دعوتك لخلع الحجاب حتى لا نرى دعوة الفتاة المسيحية لخلع الصليب.. الدعوة شكل من أشكال العنصرية تؤدي لحدوث فتنة في المجتمع".
المعركة شعبية ودولية أيضاً
آلاف المُعلقين في مواقع التواصل الاجتماعي، أعلنوا رفضهم التام للفكرة، حتى أصبح هاشتاغ
#مليونية_خلع_الحجاب يتصدر موقع "تويتر" بفضل التغريدات المعارضة من المصريين والعرب أيضاً، وبدأ هاشتاغ جديد هو
#سيلفي_الحجاب، ترتب به فتيات مصريات للذهاب إلى ميدان التحرير، للتصور بالحجاب افتخاراً به.
وصلت أصداء المعركة إلى خارج مصر، حتى أن مفتي السعودية عبدالعزيز آل شيخ، قال: "هذا التجمهر شيطاني وسيئ ومخالف لشرع الله.. الذين يدعون لخلع الحجاب هم أعداء الإسلام". ووصل الأمر إلى أن مقاتلين بفصائل جهادية سورية كتبوا تغريدات غاضبة ضد حرب السيسي على الإسلام.
أهلاً بالمعارك السهلة
كل هذا الحشد الهائل داخل وخارج مصر، من التيارات الإسلامية والمسيحية والعلمانية، من مؤيدي ومعارضي النظام المصري، اجتمعوا بهذا الحماس والغضب ضد شخص مجهول معدوم القدرة؟ وكأن الجميع يريد أن يدخل معارك خالية من المخاطر، ومضمونة المكاسب الشعبية والمعنوية، بينما تبقى المعارك ضد الفساد والاستبداد تنتظر أبطالها الغائبين.
أم أنها معركة مؤجلة؟ بشكل واضح بعد الثورة، بدأت موجة من خلع الحجاب، موجة محدودة وهادئة لكنها واضحة جداً، وأثارت نقاشات عديدة في الأوساط الإعلامية والدينية. بصوت أخفت كثيراً، وعلى هامش الصورة الضخمة السائدة، عاد من جديد النقاش في بعض الدوائر عن سؤالين: هل للفتيات في مصر حرية خلع الحجاب فعلاً؟ وهل يمكن عبر مراجعة التراث إعادة الإعتبار للرأي القائل بأن الحجاب ليس فرضاً دينياً أصلاً؟
على سبيل المثال الكاتبة غادة عبد العال، والتي رفضت دعوة الشوباشي بدورها لعدم منطقيتها، روت ما واجهته قبل خلعها للحجاب: "مش أنا الناس بتقول عليا قوية ومفترية وما بيهمنيش حد؟.. قرار خلع الحجاب و تنفيذه أخد معايا 6 سنين، وعدد كبير من السنين دي كان اللي موقف القرار هو رد فعل الناس وكلامهم، فأنصح نفسي وإياكم إننا بلاش نضحك على نفسنا!".
وطلبت عبدالعال من متابعاتها أن يسرّدن تجاربهن، وتلقت عشرات القصص تعرضت بعض صاحباتها للأذى المعنوي أو الجسدي من الأهل أو المحيط بسبب رغبتهن خلع الحجاب.
السيسي يتراجع
كان الرئيس السيسي قد أطلق في كانون ثاني/يناير، بحضور علماء الأزهر، أحد أكثر التصريحات المتعلقة بالدين جرأة، في تاريخ رؤساء مصر؛ انتقد وجود نصوص وفتاوى تحرض على العنف، وأشار إلى رفضه فكرة الحرب الدائمة بين المسلمين وبين غيرهم، قائلاً: "مستحيل أن يقضي 1.6 مليار مسلم على 7 مليارات، عشان يعيشوا هما، لذلك نحتاج إلى ثورة دينية". وبعدها في حوار مع صحيفة "وول ستريت" قال إن غير المسلمين سيدخلون الجنة أيضاً.
استغل الإخوان تصريحات السيسي للتحريض الشرس ضده، وربطوا كلامه بمعركة دينية إعلامية متزامنة خاضها الباحث إسلام البحيري وشيوخ الأزهر.
ومن الواضح أن السيسي أدرك خطورة ما انزلق إليه لسانه، في خطاب يبدو أنه كان موجهاً للغرب، خاصة أن السيسي شخصياً محافظ دينياً، وزوجته تظهر معه بالحجاب، ولم يُعرف عنه أو عن قادة الجيش أي اهتمامات ثقافية أو تنويرية.
في 17 نيسان/أبريل، قال السيسي في خطابه لطلاب الكلية الحربية، إن التناول الإعلامي لقضية التجديد الديني بهذه الطريقة ليس في مصلحتها، وأكد أن "الخطاب الديني لن يتم إصلاحه بين يوم وليلة.. مؤسسات الدولة هى المسؤولة عن تجديد الخطاب الدينى بشكل مسؤول وواعي عن طريق علماء مستنيرين". ووجّه رسالة للإعلام قائلاً: "متضغطوش على الناس فى بيوتها وتخوفوها، لأن مفيش أغلى من الدين".
هكذا تحافظ الدولة المصرية على موقعها التاريخي كداعمة لنسختها الخاصة من الدين الأزهري الموالي لها، ولكل القيم المحافظة اجتماعياً بكل ما تحمله تراث "احترام الكبير"، والبحث عن المصطلح السحري: "الاستقرار".
أما الراغبون في معارك اجتماعية ودينية حقيقية، بلا فقاعات مزيفة، فما زال طريقهم طويلاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها