مازالت ظاهرة التسريبات تطلق زلازلها التي تهز الوسط السياسي المصري؛ وآخر حلقاتها، تسجيلات لقادة القوات المسلحة والرئيس السيسي، يتحدثون فيها بإساءات بالغة تجاه دول الخليج العربي. هذه التسريبات تعتبر الأخطر على الإطلاق حتى الآن.
الخليج عبارة عن "أنصاف دول"
التسريبات، التي أذاعتها قناة "مكملين" الإخوانية، التي تبث من تركيا، تعود إلى فترة زمنية ماضية، تسبق ترشح السيسي للرئاسة. في الجزء الأول منها يتحدث مدير مكتب السيسي حالياً بالرئاسة وسابقاً بقيادة الجيش، اللواء عباس كامل، ويبدي استياءه من عدم استغلال مصر لتدخلها في حرب تحرير الكويت عام 1990، للحصول على التمويل الذي ترغب به من دول الخليج.
يقول اللواء عباس: "بغض النظر عن القومية والعربية وغيره.. كان لازم من البداية في كل المواقف الرئيسية هات وخد، أنا جايلك سنة 90 عشان أعملك البتاع وكلام من ده، هات علطول مفيهاش فصال". ووصف عباس دول الخليج بأنها "أنصاف دول"، وقارن بين أوضاع مصر السيئة والفوائض المالية الخليجية، وأيده رئيس الأركان الحالي اللواء حجازي، قائلاً: "القيادات بتاعتهم، ميزانيتهم أكبر من ميزانية البلد وكل أمير معاه مئات المليارات".
في هذا الجزء لا يظهر صوت السيسي، رغم أن مذيع القناة قال إنه كان حاضراً في تلك المحادثة، وهو ما جعل بعض المتابعين يتوقعون تحميل الذنب كله للواء عباس، واعتباره تفوه بذلك من دون علم السيسي. لكن التسجيل الثاني دحض تلك الفرضية.
"عندهم الفلوس زي الرز"
في مقطع آخر، يبدو بجلسة مختلفة، لعدم ظهور صوت اللواء حجازي هنا مطلقاً، يُسمع صوت السيسي متحدثاً إلى اللواء عباس: "تقوله (يقصد مسؤول خليجي ما)، إحنا محتاجين 10 مليار يتحطوا في حساب الجيش، والعشرة دول، ساعة ما ربنا يوفقه وينجح (يقصد نجاحه شخصياً في انتخابات الرئاسة) هيشتغلوا للدولة، وعايزين من الإمارات 10 زيهم، وعايزين من الكويت 10 زيهم، ده بالإضافة لقرشين يتحطوا في البنك المركزي، ويكمل حساب السنة بتاعة 2014".
يضحك اللواء عباس، فيرد عليه السيسي "بتضحك ليه يا عم؟ دول عندهم الفلوس زي الرز".
أثار هذا التعبير عاصفة من السخرية، عبر استخدام صور للرز في مواقع التواصل الاجتماعي، دون إهمال النقاش الجاد حول دلالة حديثه عن وضع 30 مليار دولار في حساب الجيش أولاً، وليس في حساب البنك المركزي، في بلد يعلن فيه الجيش رسمياً، من وقت لآخر، عن منح أو قروض للدولة بمليارات الجنيهات.
تخابر مبكر
في المقطع الأخير من التسريبات، يتحدث اللواء عباس مع سياسي خليجي يناديه باسم فهد، ويخبره بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدأ اجتماعه، وسيستغرق نحو ساعتين ليعلن ترشح السيسي للرئاسة.
قالت القناة إن المسؤول الخليجي هو مدير مكتب خالد التويجري رئيس ديوان الملك الراحل عبدالله، فهد العسكر. التساؤل الأهم هنا: بينما يحاكم مرسي وقيادات جماعته بتهم التخابر، ألا يعتبر إبلاغ جهة غير مصرية بموضوع اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تخابراً
التسريبات الأخطر على الإطلاق
خطورة هذه التسريبات، تحديداً، تكمن في سماع صوت السيسي بوضوح، للمرة الأولى، بينما اقتصرت كل التسريبات السابقة على اللواء عباس يحادث قادة آخرين.
وأيضاً، كل التسريبات السابقة كان موضوعها شؤوناً داخلية بحتة، مثل اجراءات حبس مرسي، والتستر على مجرميّ قضية شهداء سيارة الترحيلات، وتوجيه الإعلام، بينما للمرة الأولى تتعلق التسريبات الأخيرة بقضايا خارجية وإقليمية.
والأخطر أن التسريبات تأتي في لحظة حرجة للغاية، تسبق المؤتمر الاقتصادي المرتقب في أذار/مارس. فالنظام المصري، يحشد كل طاقاته من أجل هذا المؤتمر، منذ أشهر، وفي سبيله اتخذ العديد من الاجراءات؛ بدءاً بصدور قوانين جديدة متعلقة بالاستثمار، وربما حتى تحديد موعد انتخابات مجلس الشعب بعد تأخير طويل. الخطاب الإعلامي والرسمي في مصر يكاد يقول إن هذا المؤتمر هو القشة الأخيرة للغريق.
حسب وكالة رويتر.، فقد استعانت الحكومة المصرية بشركات استشارية عالمية، قالت إن مصر تحتاج إلى 120 مليار دولار، خلال 4 سنوات، لاستعادة معدلات النمو فوق 5 في المئة. منذ البداية كان نجاح المؤتمر الاقتصادي في اجتذاب كل هذا المبلغ مشكوكاً فيه بشدة، خاصة مع تراجع واضح للمساعدات الخليجية، والآن ربما أصبحت الأمور أصعب.
وللمفارقة كان اسم المؤتمر، حين دعا له الملك الراحل عبدالله "مؤتمر المانحين"، ولكن تم تغيير الاسم، بطلب من وزير الخارجية سامح شكري، في حزيران/يونيو، إلى "مؤتمر الشركاء". ونقلت صحيفة "المصري اليوم" عن مصدر رفيع، أن تغيير الاسم تمّ لأن مصر تسعى لاستثمارات وليس مساعدات، قائلاً "مصر مابتشحتش".
عدو عدوي صديقي
أدارت المواقع والصفحات الإخوانية المعركة الإعلامية، بزخم كبير، منذ صباح الأحد، ظهر هاشتاغ
#السيسي_يهين_الخليج ، ومع حلول الساعة الثامنة، موعد إذاعة البرنامج، تم التشويش على قناة "مكملين" ووقف بثها. ما أكسبها مزيداً من المتابعين المترقبين، وسط تداول أنباء بأن قنوات إخوانية أخرى ستذيعه.
خلال ساعات من إذاعة التسريبات، تزايدت الكتابة في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، على الهاشتاغ حتى أصبح الأكثر انشاراً في الموقع متجاوزاً 200 ألف تغريدة. احتفت الصفحات الإخوانية بتغريدات الشخصيات الخليجية مثل النائب السابق في البرلمان الكويتي وليد الطبطبائي، أو أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود عبد العزيز الزهراني، أو رئيس تحرير "العرب" القطرية عبد الله العذبة.
وفي المقابل، تكررت في قنوات الإخوان وصفحاتهم، عبارات الإعتذار للخليج عن إساءات السيسي، في محاولة لاستمالة لا تخفى أغراضها.
التسريبات لا تغير الخنادق
الملاحظة البارزة أن أحداً لا يغير موقفه بناءاً على تسريب. فالشخصيات الخليجية التي شاركت في الهاشتاغ بالاستنكار والسخرية، معروفة بمواقفها السابقة المتعاطفة مع الإخوان، والمعارضة للسيسي. بينما على الجانب الآخر، وفي جولة بين حسابات المعروفين برفضهم للإخوان، تظهر نتائج مختلفة. كلهم إما تجاهلوا ما حدث أصلاً، أو اشتركوا في التأكيد أنها مفبركة وتمثيلية إخوانية، ومنهم رئيس تحرير "السياسة" الكويتية أحمد الجارالله، وقائد شرطة دبي سابقاً ضاحي خلفان، والمستشار الثقافي لحكومة دبي جمال بن حويرب.
الموقف الرسمي تأخر لساعات طويلة، سادها الصمت، حتى صدرت بيانات صحافية تتحدث عن اتصالات بين السيسي وقادة الخليج، لتأكيد متانة العلاقات. الحدث الأبرز كان ما نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واسا"، بأن الملك سلمان تلقى اتصالاً من الرئيس السيسي، وأن الملك أكد وقوف المملكة بجوار مصر، وأن علاقة البلدين "أكبر من أي محاولة لتعكير العلاقات المميزة والراسخة بين البلدين الشقيقين".
هل انتهى الأمر فعلاً، أم هناك ردود أفعال، قررت مختلف الأطراف تأخيرها، لتجنب شماتة الإخوان؟ الأمر سيتضح خلال الفترة القادمة، خاصة أن جميع المصادر الرسمية المصرية والخليجية لم تذكر أبداً، بصراحة، أن التسريبات مفبركة، ما يشير إلى أخذها بجدية. ويذكر بأن وقت التسريبات الأولى، أصدرت النيابة العامة المصرية، بياناً رسمياً، يدعي فبركتها.
وعلاوة على التأثيرات الشعبية الخليجية، التي ربما تنعكس سلباً على العمالة المصرية في الخليج، فإن التأثير الرسمي الخليجي سيتضح مداه بعنصرين رئيسيين؛ أولهما، بقاء اللواء عباس كامل في منصبه، علماً بأنه كان بطل جميع التسريبات السابقة، وأبدى قدراً كبيراً من انخفاض مستوى التفكير والأداء، وحتى التعبير اللغوي، كما اتضح في تكراره استخدامه كلمة "البتاع".
من عادة المؤسسة العسكرية ألا تعزل قائداً كاستجابة مباشرة لحدث، ولكن العزل يتم بهدوء بعدها. حدث ذلك مع قائد الجيش الثاني المسؤول عن سيناء اللواء أحمد وصفي، ومع رئيس الهيئة الهندسية المسؤول عن فضيحة الجهاز الوهمي لعلاج الفيروسات اللواء طاهر عبد الله، وأيضاً مع مدير المخابرات الحربية اللواء التهامي.
العنصر الثاني، هو ما سيسفر عنه المؤتمر الاقتصادي في أذار/مارس، حيث سيعني تدني الأرقام الخليجية للاستثمارات بأقل من المتوقع بكثير، رداً عملياً على الاساءات. وفي حال حدوث ذلك، فإن فشل المؤتمر، سيؤثر سلباً على آمال المصريين جميعاً، كما سيعني اختفاء القشة التي كان يتعلق بها الغريق، تاركة إياه للمجهول.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها