واللاءات الثلاث الرئيسية، التي ركز عليها الجولاني، في ظهوره الأخير، سبق وأن تحدث عنها، بالمستوى ذاته من اللهجة، ومعه عدد من قادة "جبهة النصرة" -فرع تنظيم "القاعدة" في بلاد الشام- في مناسبات سابقة. وهذه اللاءات هي: رفض أي حل سياسي في سوريا وإسقاط من يقبل به، ورفض أي تعاون مع أي دولة أو جهة واتهام من يستمر به، إلى جانب رفض فك الارتباط بتنظيم "القاعدة".
لكن العلامة الفارقة والأكثر وضوحاً في ظهوره الأخير، كانت في التوجه مباشرة إلى الفئة الثورية مقابل تعطيل أولوية "الحاضنة الشعبية"، على عكس ما كان يحدث دائماً؛ حيث سعت "جبهة النصرة" باستمرار إلى التقرب من الناس، حتى وأن كان على حساب التمايز عن الثورة.
خصص الجولاني حديثه لوسائل إعلام داعمة للثورة بامتياز؛ "الجزيرة والغد العربي وأورينت"، والتي مثلها في هذا "المؤتمر الصحفي المصغر" نشطاء لهم ثقلهم الثوري، مثل هادي العبدالله، والإعلامي موسى العمر. وأن كان الجولاني قد ركّز في مجمل حديثه على "اسقاط النظام" كثابت أول بين ثوابت الثورة، في خطوة ذكية بلا شك، إلا أن ما أفقدها زخمها، هو انتقاص الجولاني غير المباشر من أهمية "الجيش الحر"، وازدرائه بشعارات تعتبر من مبادئ الثورة الأساسية، مثل "الحرية" وغيرها، التي وصفها الجولاني "بالتفاهات".
ويرى مراقبون، أن الجولاني لم يفشل فقط في تمتين حبل الود مع الحاضنة الثورية كما بدا هدفه، بل ودمر كل ما سعت "جبهة النصرة" خلال السنوات الأربع الماضية إلى بنائه من روابط بينها وبين الشعب السوري، وما عملت عليه لكسر حاجز "نخبوية التنظيم" لصالح الالتحام بالجماهير. ظهر ذلك جلياً حين رفض الجولاني التعاطي بالمستوى المطلوب مع مأساة السكان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو المهجّرين والنازحين منها، حين جدد رفض مشروع المنطقة الآمنة التركي مثلاً، وكذلك في قوله: "إننا نضحي بخيرة شبابنا مقابل الخلاص، وأن على الأمة أن تصبر وتضحي أيضاً"، ما أُعتبر من قبيل المزاودة.
مدير "مركز العزة للدراسات والأبحاث" عاصم موسى، قال لـ"المدن"، إنه وإلى جانب استغلال الجولاني للتوقيت، وكذلك للوجوه الثورية التي سمح لها توجيه الأسئلة إليه، في ذلك "المؤتمر"، إلا أنه كان واضحاً في رغبته بأن يسجل في هذا الظهور بداية جديدة من خطاب "النصرة"، ممهداً لخطوات أكثر راديكالية في عملية الفرز والتصنيف على الساحة السورية.
ويضيف موسى: "على عكس ما يبدو أنه انسياق لا شعوري من قبل زعيم جبهة النصرة، خلف مبادئ السلفية الجهادية الصلبة، وبالتحديد تلك المتعالية على الشعوب والعامة، أي النخبوية بحسب المصطلح، فإن الجولاني أراد كما يبدو، استقطاب المزيد من المؤيدين والأنصار، وكذلك من المقاتلين إلى صفوف فصيله، وصولاً إلى مغازلة مقاتلي الفصائل التي حضرت مؤتمر الرياض، من خلال إظهاره التمسك بالخطاب الرافض لأي حل سياسي مع النظام".
واعتبر موسى أن هذا الخطاب مفيد لفصيل مثل "جبهة النصرة"، خاصة عندما يترافق مع مجازر وانتهاكات جديدة يرتكبها النظام وحلفاؤه، كما حدث في اليوم التالي من بث اللقاء، حيث ارتكب الطيران مجزرة رهيبة في مدينة دوما في ريف دمشق، وراح ضحيتها أكثر من مئة ضحية من المدنيين، الأمر الذي سيؤكد من وجهة نظر الناس، أن النظام وحلفاءه لا يمكن التحاور أو التفاوض معهم إلا بلغة السلاح فعلاً.
ويتعارض هذا التحليل مع ما ذهب إليه كثيرون، من أن هذه المجزرة تؤكد، أنه ليس بالإمكان وضع حد لمجازر النظام وحلفائه في ظل الظروف الحالية، في الوقت الذي لا يقدم فيه "تيار النصرة" أي حلول أخرى سوى المطالبة بالصبر والصمود، بل ويطالب بقطع العلاقات مع الدول التي توفر الدعم العسكري والإنساني للثوار.
واستغل أصحاب هذا التوجه مقطعاً مصوراً تم بثه من الغوطة عقب مجزرة السبت، ويظهر فيه رجل في منطقة القصف وهو يُحمّلُ الجولاني المسؤولية عن المجزرة. حيث كان زعيم "جبهة النصرة" قد أكد في مؤتمره الصحافي، رفض أي هدنة في الغوطة الشرقية مع النظام، وجدد تأكيده أن التنظيم سيسعى لإفشالها، نظراً "للرمزية الدينية والعسكرية للغوطة الشرقية" كما قال.
في المقابل، هناك من اعتبر تحميل الجولاني المسؤولية عن هذه المجزرة، كمن حمَّلّ الثورة وفصائلها، من قبل، المسؤولية عما ارتكبته قوات النظام طيلة السنوات الماضية في سعيها لإخماد الثورة. وإن كان هؤلاء، قد رفضوا تمييز الجولاني بين هدنة الزبداني-كفريا-الفوعة، التي كان لـ"جبهة النصرة" دور رئيس في إقرارها، وبين الهدن الأخرى التي ترفضها الجبهة.
وإلى جانب المأخذ الأول الذي يسجله هؤلاء على التيار السلفي الجهادي، ويتمثل بـ"عدم قدرة التيار على انتاج حلول أخرى إلى جانب القتال في المواجهة"، فإن المأخذ الثاني يتمثل في "الكيل بمكيالين أو أكثر، خاصة لجهة تجيير الأدلة الشرعية بما يناسب مواقف التيار واجتهاداته". وهما مأخذان مزمنان لم يتمكن تيار السلفية الجهادية من معالجتهما طيلة عقود، كما يرى منتقدوه.
ويرى هؤلاء، أن الجولاني، وجّه ضربة قوية لخطاب وتنظيرات التيار المنفتح في تنظيم "القاعدة"، والذي قضى معظم أصحابه، بعدما أسسوا لانطلاقته عملياً مع "جبهة النصرة" في سوريا، وذلك لصالح الانجراف مع رؤية المنظرين الذين يتصدرون المشهد اليوم. وهي الرؤية التي تركها تنظيم "الدولة الإسلامية" متاحة لـ"القاعدة" على الساحة الجهادية، ويمثلها خاصة، المنظران الأردنيان أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، بالإضافة إلى المصريين هاني السباعي وطارق عبدالحليم. أولئك الذين سبقوا الجولاني في التهجم على مؤتمر الرياض ومخرجاته، والتعريض بالفصائل التي شارك ممثلوها فيه، إلى حدّ الاقتراب من تكفيرهم.
وبهذا السياق، انتقد مفكرون محسوبون على التيار السلفي الجهادي، وكذلك مدافعون عنه في تعليقات لهم في مواقع التواصل، العديد من النقاط التي صرح بها زعيم "جبهة النصرة"، وجدّد بعضهم التذكير بما جاء في وثائق "أبوت أباد"، وكذلك كتابات رفاق لزعيم تنظيم "القاعدة" السابق أسامة بن لادن، والتي صدرت في مستهل انطلاق ثورات الربيع العربي، مثل نص الشيخ عطية الله الليبي الذي كتبه قبل رحيله بفترة قصيرة عام 2011، وفيه يعلن تأييد "ثورات الشعوب العربية على الأنظمة الديكتاتورية القمعية"، ويؤكد "أن الموقف المبدئي منها هو الفرح للشعوب أنها نالت الحرية".
ويقول من استحضر "نص الليبي" إن تصريحات الجولاني، وجهت له ضربة مؤثرة، في وقت كانت تعتبر فيه "النصرة" الحامل الرئيس له. فـ"أسامة بن لادن دعا في رسائله الأخيرة، إلى مزيد من التلاحم مع الأمة بعد هذه الثورات، التي اعتبرها خطوة جيدة إلى الأمام، لما تتضمنه من المطالبة بحرية الكلمة والتعبير، فتتاح لشعوبنا فرصة للاستماع إلى الخيارات والأفكار.. فالأمة تتطلع إلى الحرية والكرامة، لكن قد يغيب عن بعض فئات الجمهور الإسلامي التصورات الصحيحة التي تكفل للأمة العيش بكرامة، وعلينا أن نبين ذلك ونشرحه للناس"، بحسب نص الليبي.
لكن وبغض النظر عن كل التفاصيل، يمكن القول إن تصريحات قائد "جبهة النصرة" الأخيرة، بالمجمل، لا يمكن أن تمر من دون ارتدادات، حتى داخل الجبهة ذاتها. ولا يجب التقليل من آثار وانعكاسات هذا المؤتمر الصحافي لزعيمها على علاقة الجبهة مع بقية فصائل المعارضة، وكذلك مع الحاضنة الشعبية أيضاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها