يُشبه بيان فيينا الختامي، الذي صدر الجمعة، المبادرة الإيرانية بخصوص سوريا، ذات النقاط الأربع، التي تتمحور حول: وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء إصلاحات دستورية، ثم القيام بانتخابات برلمانية ورئاسية.
لكن أهم ما يميز بيان فيينا، ذي البنود التسعة، هو الإلتفاف على اتفاق "جنيف-1" وخاصة حول "هيئة حكم انتقالي" كاملة الصلاحيات، عبر تحويلها إلى "حكومة وحدة وطنية"، وفق بيان فيينا. وبهذا تتحقق رغبات الجميع إلا الشعب السوري.
كان شغل روسيا الشاغل، في الفترة الماضية، هو التملص من اتفاق جنيف الذي وقعت عليه في العام 2012، في حين أن إيران لم تعترف بجنيف أصلاً. لكن الداعم الأكبر للتملص من جنيف، هو الولايات المتحدة التي ألزمت نفسها بنص يتعارض مع مصالحها الإقليمية. فحين عُقد "جنيف-1" لم تكن هناك "داعش"، ولم يكن الاتفاق النووي مع إيران قد أنجز بعد، ما جعل حسابات أميركا في المنطقة تختلف اليوم.
فما الذي حدث؟ الواضح من ترتيب الأحداث، أن المبادرة هذه المرة كانت روسية، فهي من دعا إلى "الاجتماع الرباعي"، الخميس، مستثنية إيران من بين اللاعبين الكبار في الساحة السورية. وتمت دعوة بقية الدول إلى الاجتماع الموسع، الجمعة، في ما يشبه دعوة بروتوكولية لمنح الاجتماع لمسة الشرعية الدولية، في استحضار لأجواء "جنيف-1". الاجتماعان، الموسع والرباعي، لم يلحظا أصلاً، وجوداً سورياً.
دعوة إيران للاجتماع الموسع، كانت استثنائية تماماً، فهي لم تحضر فعلياً، في "الاجتماع الرباعي"؛ حيث حضر وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، مساء الأربعاء إلى فيينا، وعقد اجتماعات جانبية، على هامش "الاجتماع الرباعي"، أهمها كان مع وزير الخارجية الأميركية جون كيري. وفي الوقت الذي يفسر فيه الكثيرون هذا الأمر بالإصرار السعودي على غياب أي دور كبير لإيران في اجتماع يخص الشأن السوري، فإن الترويج لهذا السبب لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون. فالسعودية، لا تملك القدرة على فرض رأيها في منع الحضور الإيراني، في حال أصرت روسيا وأميركا على ذلك. فأين هي القطعة المفقودة؟
المشكلة كانت دائماً في التصنيف النمطي للقوى الدولية، خاصة في ما يخص الشأن السوري. حيث درجت العادة على تصنيف القوى الدولية والإقليمية وفق محورين: روسي وأميركي. وهذا التصنيف لم يعد صحيحاً اليوم، بما ظهر من دعوة إيران إلى فيينا، بحيث بات جلياً أن أميركا هي من أصرت على حضور إيران، رغم رغبة الروس بتحجيمها.
وهذه الرغبة الأميركية ليست وليدة فيينا، بل بدأت مع أول غارة روسية في سوريا، وسط ملاحظات تشير إلى أن هدف التدخل الروسي في سوريا ليس دعم الأسد بقدر ما هو تحجيم السطوة الإيرانية عليه. واتضحت السيطرة الإيرانية على مفاصل القرار السوري، في مفاوضات الزبداني-الفوعة، التي غاب عنها النظام، مفسحاً المجال لإيران في أن تتصدر المشهد، الأمر الذي قد يكون حافزاً وراء التدخل الروسي بشكل متسرع لحماية استثمارها في النظام السوري.
وروسيا تتجه اليوم إلى دعم نظام الأسد عبر دعم الجيش، لا عبر تقديم الغطاء الجوي له فقط. كما أن التغييرات التي حصلت ضمن بنية الجيش توضح أن هناك إجراءات سريعة لترميم هذا الكيان المترهل، الذي فتته سطوة الميليشات التي تدعمها إيران.
المبادرة الإيرانية المختصرة، ذات البنود الأربعة، كانت قد صُممت لتحل محل خطة "النقاط الست" التي قدمها الموفد الدولي إلى سوريا كوفي عنان، وكانت أساساً لوثيقة "جنيف-1". والفارق الأساسي بينهما هو تحويل نظام الأسد من مجرم تترتب عليه مسؤوليات والتزامات، إلى شريك إيجابي يعول عليه في "مكافحة الإرهاب".
وبالمقارنة بين المبادرة الإيرانية والمبادرة الروسية، ورغم توافق الطرح العام وتشابه البنود، يبقى هناك فارق أساسي: المبادرة الروسية تُشرعن الوصاية الروسية على سوريا، والوجود العسكري الروسي على الأرض السورية، بوصفه ضامناً للدولة. وهو الأمر الذي قد لا ترغب فيه أميركا، رغم رضاها التام عن التورط الروسي في رمال سوريا المتحركة، ورغبتها الكبيرة في استمرار التنافس المحموم بين الصديقين اللدودين: الروسي والإيراني. وواشنطن لا تخفي تفضيلها للإدارة الإيرانية في حل الأزمات، كما عهدتها وتآلفت معها في تجربة العراق، في حين يضمن لها هذا التنافس الروسي-الإيراني استمرار الاستنزاف الاقتصادي لكليهما، في ظل أزمة انخفاض عائدات النفط.
في انتظار الجولة المقبلة من اجتماعات فيينا، والتي قد يشارك فيها وفدا النظام والمعارضة، يبقى البحث جارياً عن القطعة الناقصة في لوحة فيينا. قطعة ستربط وتوائم بين كل الرؤى والمصالح، وتخرج بصفقة يكون الكل فيها رابحاً، باستثناء الشعب السوري.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها