بادية فحص عن النبطية وبيتها: الروح تنبض بالأحجار القديمة
لا تكلّف بين أمّ وابنتها. تجلس بادية فحص أمامنا متحدثةً عن أمّها النبطية، بتلقائيّةٍ وعفويّة وتصوّف بلا أي إدعاءات أبعد منها. تحمل في قلبها الكثير لمدينتها الأمّ، وفي حبّ بادية لمدينتها شيءٌ شديد الجنوبيّة، شديد الذاتيّة، شديد الوجدانيّة. نجلس أمام بادية فحص الكاتبة المثقفة، تجلس أمامنا ابنة النبطيّة الهائمة بجبل عامل، لتحكي عن جنوبها المنكوب ومدينتها "الجثة" وبيتها المُدمّر، بلهجةٍ جنوبيّة صافيّة، بحزنٍ نبيل، وهمٍّ صادق، ونوستالجيا يُحرضها ما يُشبه الحزن الناتج عن استحالة العودة إلى الوطن الأصليّ، الحنين إلى مسقط الرأس، إلى البيت.
(النبطية)
النبطيّة: أمّ القرى
"النبطية بالنسبة لي، كما أي شخص من سكّان قرى النبطيّة، هي الأمّ، لأنّها حضتنا جميعًا. بالنسبة لنا نحن سكّان القرى والمناطق المهملة –والنبطية كانت مهملة أيضًا– هي كل شيء، هي الحلم. أتذكر أن فرحة العيد لا تكتمل إلّا إذا اشترينا فستان العيد و"سكربينة" العيد في النبطية، أي شيءٍ يعنينا، أي ذكرى لنا كانت لها علاقة بالنبطيّة وبسوق النبطية، كلّ القرى المجاورة لها في الجنوب، كانت تنظر إليها كملجأ وحاضنة، لهذا يتغنى بها الجميع"، بهذا تستهل فحص حديثها عن مدينتها، محاولةً تفسير البُعد الأنثربولوجيّ لحبّ وتغني أهلها بها.
تقول بادية: "القهر الذي يُحسه الجميع على النبطية، ليس قهرًا على مدينة لبنانيّة فيها آثارٌ تاريخيّة أو لأنّها بُنيت منذ آلاف السنين وتختزن قيمة تاريخيّة وحسب، بل لقيمها الاجتماعيّة والثقافيّة والإنسانيّة، هي الحاضنة للنشاط الثقافي وللمثقفين اللّبنانيين، العرب والأجانب، لذلك، فالنبطية لها قيمة ثقافيّة، وطبعًا قيمةٌ تراثيّة بعمرانها العتيق الذي شُيّد قبل 200 عام، فضلًا عن سوقها البديع الذي أُسس قبل 400 سنة، وكان مسمى بالسّوق المملوكيّ (أي يعود إلى الحقبة المملوكيّة)". تلين ملامحها وتُضيف بابتسامةٍ رائقة "إذًا، فالنبطية هي حاضنةٌ لذاكرتنا، هي الّتي بنت هذه الذاكرة، وخلقت هذه الألفة الاجتماعيّة بيننا، هي الّتي عرّفتنا على بعضنا، وكانت مساحةً للقاء، فسوق النبطية كان إلى جانب دوره التجاريّ، كان له دورٌ إنسانيّ، ودورٌ ثقافيّ، وممكن أن نقول أنّه كان يُطبق مبدأ الآية القرآنيّة الّتي تقول: وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا".
(إحدى العمارات القديمة في النبطية)
نسألها، عن أكثر ما أسفت عليه لدى مشاهدتها لسوق النبطية وهو يُدمّر وأمام أعينها بالصوت والصورة.
"كلّ شيء بالنسبة لي في النبطية وسوقها يعنيني. لكن هل تدركين؟ أكثر ما أسفت عليه، هو مشهد يُمكن أن لا يعني كثيرًا للناس، مشهد تدمير محلات قميحة، أهل النبطيّة يعلمون ما هي محلات قميحة، كل ستّ بيت بحاجة إلى بهارات، عشبة أو وصفة، تذهب إلى قميحة، كان أشبه بطبيب الأعشاب. عندما شاهدت المحل مدمّرًا، تذكرت وأنا صغيرة كيف كانت تجرّني جدتي إلى هذا المحل، ومن بعدها أمّي، وعدت وصرّت أجرّ أولادي وأحفادي إليه. عندما رأيت دماره، شعرت أن شيئًا ما بذاكرتي تدمّر وفنى". تتغضن ملامحها، وهي تقول بتأنٍ شديد: "صحيحٌ أنّه سيعاد إعماره، لكن الحجارة، الحجارة الّتي كانت شاهدة على زبائن هذا المحل، ماتت. ماتت الحجارة. والحجارة الجديدة، ستكون جاهلة، لا تعرف أحدًا. هذا المكان كان خزان ذاكرة، وفُقد اليوم".
موت الحجارة وكينونة البيوت
من مشهدية متجر قميحة، إلى دمار النبطية وخرابها، تنتقل فحص لرثاء الذاكرة الّتي فُقدت ورثاء حجارة النبطية الّتي هُدمت واستذكار منزلها في قلب النبطية، قائلةً: "ذاكرتنا ضاعت، وكل شيءٍ تهدّم في النبطية تهدّمت معه الطاقة الجميلة والإيجابيّة الّتي كانت تُظلّل المدينة كهالةٍ بديعة. لا شكّ أن المدينة ستبنى من جديد وقد تبنى بحلّةٍ أجمل، لكن ستبنى بذاكرةٍ جديدة، والمدن إذا ماتت ذاكرتها تموت هي معها".
تستوقفنا كلمة "موت الحجارة" الّتي قالتها فحص تكرّارًا، نسألها عن معناها، لتقول: "الحجر مستخرج من الأرض، وكل ما هو مستخرجٌ من الأرض هو كائنٌ حيّ، صحيحٌ أنّه صلب وجامد لكنه حيّ وليس بجماد. أحيانًا، قد يصبح بينك وبين الحجر حوار، أحيانًا قد تمسدي على حجرٍ بيديك وتشعرين بشيءٍ ينبض فيه، لأنك تلمسين ذكرى. هناك تواصل بينك وبينه، هو يعرف ما بك وأنت تعرفين ما مرّ عليه". تُتابع "لذلك بتقديري، فإن البيوت هي كائنات حيّة، وكما ينفخ الله روحه بجسد الإنسان ليصير كائنًا حيًّا، فالبيت هو الكيان المادة الذي ننفخ أرواحنا فيه".
بحرجٍ واضح وخجلٍ شديد تجيب بادية عن سؤالنا بما يتعلق ببيتها في النبطية الذي لاقى كما غيره من عمران النبطية دمارًا، بالقول: "الخسارات كثيرةٌ ومتشعبة، ويخجلني الحديث عن خسارةٍ ماديّة أمام خسارات الأخرين، لكن وفي النهاية خسارتي تعنيني كثيرًا، فعندما أخسر بيتًا وغيري يخسر، تتراكم الخسارات الشخصيّة وتصبح خسارة عامة".
السّند الأخضر
"يعنيني بيتي كثيرًا، كما تعني كل البيوت لأصحابها، أنا اشتريته حجرًا وحجراً، عندما كنت صبيّة في مقتبل العمر، ومُطلّقة مع ثلاثة أطفال. تعبت حتّى أحصل على هذا البيت، حُرمت وحرمت نفسي سنواتٍ طويلة حتّى استطعت سداد القرض، وبعدها سنوات طويلة لتأثيثه كما أريد. أخذ مني عمرًا طويلًا هذا البيت، نحو العشرين سنة". تتابع فحص: "صغيرٌ بيتي ليس كبيرًا، لكنّني بنيته على "خاطري"، وحولته إلى مساحةٍ آمنة لي، عندما كان الخارج غير آمن، أكان بسبب ظروف تتعلق بي شخصيًّا وأخرى ترتبط بالمجتمع الذي أعيش فيه أو بخياراتي الشخصيّة. لذلك، قررت أن أبني هذا البيت في زاويةٍ بعيدة، وجعلته أكثر من مجرد منزل، بل مكانًا يعّبر عني".
تصف بادية بيتها، قائلةً: "قمت بتزيين الجدران بصور الأشخاص والأشياء الّتي أحبها، مثل صورة المغني الإيرانيّ شهرام ناظري، ومحمد عبد الوهاب، ونجيب محفوظ، وغيرهم. لكل جدار قصة تعبر عن شيء معين. بالإضافة إلى ذلك، كان لدي اهتمام خاص بالتصوف، وخصصت زوايا في المنزل لأفراد عائلتي، بما في ذلك والدي (السّيد هاني فحص) وأحفادي وأولادي، كان البيت مفعمًا بالتفاصيل الشخصيّة، كجدارٍ خصصته لتعليق 30 وسادة جمعتها من كل مدينة زرتها حول العالم. حتى الشرفة، الّتي أطلقت عليها اسمًا خاصًا وكان كل زواري يعرفونها باسم "الشرفة" لا "البلكون" كما هو التعبير الدارج، جعلتها حديقةً للنباتات العطريّة مثل النعناع والريحان والياسمين، وكنت أترك بابها دائمًا مفتوحًا لتتسلّل رائحة الورود إلى داخل البيت".
(الشرفة)
بيت بادية كان بالنسبة لها كـ"صفقة" بينها وبين الحياة الّتي لم تكن عادلة، وتقول لنا ضاحكةً: "أتذكر عندما نزلت إلى العقاريّة ودفعت آخر دفعة من القرض، أقمت حفلة في المنزل. لكن أكثر ما أسعدني هو عندما حصلت على صكّ الملكية، شعرت أن هذا السّند الأخضر يحمل دلالات عميقة، فهو ليس فقط وثيقة قانونية، بل هو "سند" ولونه من بين كل الألوان أخضر، هل هناك أجمل من ذلك؟".
استحالة العودة إلى الوراء
نسأل بادية، إذ كانت العودة ممكنة، فتجيبنا: "تاريخ التهجير ترك أثرًا عميقًا في نفسي. منذ تهجيرنا الأّول عام 1978، لم نعد إلى قريتنا، واستمرت تجربة التهجير في حياتي وفي حياة عائلتي مع كل حرب مرت على لبنان. هذه التجارب القاسية جعلتني أفكر جديًّا في مغادرة البلد، لم أعد أتحمل رؤية الدمار ولم أعد قادرة على تحمّل الخسارة. الحروب المتكررة والخسائر البشرية تركت المدن مشوهة، أشبه بجثث فقدت أطرافها. المدن لا تُبنى فقط بالحجارة، بل بأهلها وذكرياتهم. حينما أفكر في العودة إلى مناطقنا، أشعر أن العودة ليست ممكنة كما كانت من قبل، فالمدينة أصبحت كما "الجثّة" ولا أقوى على مشاهدتها كذلك".
مضيفةً: "الحب الذي نحمله لوطننا ولمناطقنا ولمدننا، أشبه بحبٍّ من طرف واحد بالنسبة لي، أو ربما علاقة سامة. نستمر في الصمود رغم الضربات المتكرّرة، لكن هذه العلاقة تنهكنا نفسيًّا وعاطفيًّا. بالنسبة لي، وصلت إلى مرحلة لا أستطيع فيها الاستمرار بهذا الشكل. أشعر أن مدينتي ووطني لا يبادلاني الحبّ، وهذا ما يجعل فكرة البقاء والاستمرار أصعب يومًا بعد يوم".
تُضيف خاتمةً: "حتى لو أعدنا بناء المدن، فإن الهيكل القديم الذي شكل هذه المجتمعات لن يعود كما كان. فقدنا الكثير من العناصر الّتي كانت تشكل هويتنا، من الحجر والشجر إلى الذاكرة والبشر. والحرب، بما تركته من آثار مريرة، ستظلّ تتحكم في حياتنا وتعاملاتنا وذكرياتنا لوقت طويل، ولن تنقشع هذه الغمامة عن ذاكرتنا بسهولة"..
لمتابعة القصة على مواقع التواصل الاجتماعيّ: يوتيوب، انستغرام، فايسبوك.