قطر التي تغيرت على وقع المونديال: إيقاع حياة جديدة

عبير جابر
الإثنين   2022/12/19
البلد الصغير مساحة فتح قلبه كبيرًا للعالم أجمع (عبير جابر)

ما قبل 20 تشرين الثاني 2022 لم يكن كما بعده، قرابة شهر غيّرت من صورة قطر في عيون أهلها قبل غيرهم، وهم الذين تضج الآن أذهان غالبيتهم بأسئلة عن العودة لنمط الحياة السابق لكأس العالم، الرجوع لصورة الدوحة الساكنة، تلك المدينة التي يسودها الهدوء تقريبًا بعد الساعة العاشرة مساءً، حين تغلق المراكز التجارية ومعظم المؤسسات والشركات الخاصة، باستثناء أماكن السهر التي تقتصر على روادها المحددين، والتي تقفل أبوابها أيضًا بموعد محدد، هو الثانية فجرًا كأقصى موعد.

وتيرة الحياة التي اعتادها الجميع خلال الأيام الماضية شهدت انقلابًا جميلًا خلال المونديال، حيث كانت قطر ساحة مفتوحة وفضاءً شاسعًا للتلاقي والتعارف بين أهل قطر مواطنيها ومقيميها وبين زوارها مشجعين وسياح، أثمر عن أمسيات طويلة أمام الشاشات في مناطق المشجعين والمقاهي والمطاعم والساحات العامة، وعن ليالٍ طويلة تتواصل حتى طلوع الفجر على الكورنيش وفي المرفأ القديم، جزيرة المها، وجزر قطيفان وغيرها من المعالم السياحية الرئيسية في قطر. وفي الوقت نفسه تبدل إيقاع المدينة من شوارع شبه هادئة في ساعات الليل إلى صاخبة في أي وقت، خصوصًا في ساعات الفجر الأولى. فإذا قصدت اللؤلؤة أو لوسيل ستجدهما في ازدحام جميل تملأه الحماسة. 



سوق واقف
ولعل المعلم الأبرز الذي لا ينام هو سوق واقف في قلب الدوحة، أكثر الأماكن الشعبية شهرة في قطر، ومقصد السياح على مدار العام. فكيف به خلال المونديال مع الإعلان عن استقبال الضيوف ليلًا نهارًا وعلى مدار الساعة من دون توقف. ففي أي وقت تقصد السوق تجد مقاهيه ومطاعمه الشعبية والعالمية تغص بالزوار الذين يحرصون على زيارة السوق والاستمتاع بكل ما فيه من أكلات شعبية، ومظاهر تراثية، وبضائع محلية وهدايا تذكارية. وباتت قوائم الانتظار لإيجاد طاولة في مقهى تتطلب أكثر من ساعة، إلا لمن حالفه الحظ، وبشكل خاص المقاهي التي تقدّم الشيشة لروادها، حيث أقبل المشجعون عليها بشكل لافت.

وتحوّل سوق واقف أو سوق عكاظ المشجعين، ساحة تتبارى فيها الجماهير في إطلاق الهتافات والأغاني التشجيعية، كلّ منهم للمنتخب الذي يشجعه، في مقابل جمهور منافس لا يتوانى عن الرد بأقصى عبارات التشجيع للتقليل من شأن الخصم، وكان أبرز ما شهده السوق الفرحة العارمة للجمهور السعودي بالفوز على الأرجنتين، حيث ضجّ السوق بهتاف "ميسي وينه؟ كسرنا عينه"، ومع أن الفرحة لم تكتمل مع السعوديين، كما يشير محمد، المشجع السعودي الذي أمضى قرابة شهر في قطر، إلا أنه لم يغادر عند خسارة منتخب بلاده "ما نراه في قطر اليوم لا يترك لنا خيار المغادرة، الأجواء رائعة وبشكل خاص في سوق واقف"، يقول هذا وهو يتشح بعلم الأرجنتين خياره البديل في التشجيع.

مشجعون وسياحة
ولعل أبرز جمهور شهده السوق كان المكسيكي قبل مغادرته المونديال، ومن بعده الأرجنتيني الذي ظلّ يردد أغنيته الشهيرة "فاموس أرجنتينا" وفيها يقولون "هذا العام علينا تغيير الواقع لأننا جئنا إلى الدوحة لنكون أبطالًا"، بالإضافة لأغنيتهم التي تتوجه للجمهور البرازيلي المنافس الأبرز لهم "ميسي من دون ضجة سيحضر الكأس لنا ومارادونا أفضل من بيليه".

وقد اتخذ الهتّافون الأرجنتينيون ساحة كبيرة تتوسط سوق واقف، يتحلقون فيها ويقفزون بشكل هستيري، كموج هادر يترك الساحة في مدّ وجزر بشري. حتى أن العرب المشجعين للأرجنتين باتوا يهتفون معهم بأغانيهم وهتافاتهم وحفظوها عن ظهر قلب.

وفي أواخر أيام كأس العالم، انضم الجمهور المغربي يسانده العرب والأفارقة لمساندة المنتخب المغربي، فجابوا السوق بالمسيرات مع شعار "سير سير".

في سوق واقف نفسه تعرّف السياح على الزي الخليجي واقتنوه وتباهوا في ارتدائه أبيضًا أو مزينًا بأعلام بلادهم، فكانوا نساءً ورجالًا يتنقلون مع الغترة والعقال، بين الاستادات والأماكن السياحية المتنوعة.

وكان اللافت أن العديد من العاملين في المحلات والمقاهي الشعبية باتوا يرحبون بالمشجعين بلغتهم، محاولين كسب ودهم وتشجيعهم على الشراء، فهنا الشاب جاسم في محل لبيع الملابس الشعبية والرياضية يستقبل برونو البرازيلي بعبارة "أولا" Ola فيقابله المشجع بابتسامة عريضة.



ليالي السهر
النبض الهادر في سوق واقف كان يمتد للمناطق حوله، فهو يقع بجانب كورنيش الدوحة الذي احتضن الفعاليات الترفيهية، بما فيها العروض الثقافية من مختلف الدول المشاركة في المونديال. الكورنيش الذي أغلق بوجه السيارات واقتصر على المشاة كان مقصدًا يوميًا للزوار الذين يمضون فيه الأوقات الجميلة، مستمتعين بالطقس الجميل الذي تشهده الدوحة هذه الأيام، إلى جانب التسهيلات التي أقيمت عليه من أكشاك الأطعمة والمشروبات، والشاشة العملاقة لمشاهدة المباريات، بالإضافة إلى عروض طائرات الدرون والألعاب النارية التي تزين السماء بلوحات ساحرة. 

وإذا كانت الدوحة خلال المونديال المدينة التي لا تنام، كان يمكن القول إن قطر كلها لا يغمض لها جفن. فليالي السهر ما قبل المونديال في الدوحة "كانت تقتصر على عطلات نهاية الأسبوع والأعياد الرسمية"، كما تقول نسرين، فإن غيرها من المدن كالوكرة والخور كانت "أمسياتها أقصر وأكثر رتابة ولم يكن فيها الكثير لفعله". لكن الفعاليات التي أقيمت في محيط الدوحة وخصوصًا في مناطق جانبية مثل الوكرة وراس أبو فنطاس وأم صلال محمد والذخيرة مثل مهرجان أركاديا الموسيقي ومدل بيست أرافيا، التي استضافت أشهر الفنانين والموزعين الموسيقيين "الدي جي". كما أن الفعاليات المحلية كمبادرة "حياتنا" والفعالية السنوية المصاحبة لليوم الوطني القطري "درب الساعي".. حرّكت المياه الراكدة في هذه المدن، وجعلت الزوار كما المقيمين يعيشون لحظات لا تنسى، من خلال تجربة الحياة التقليدية وممارسة نشاطات التخييم وركوب الإبل وخوض المغامرات في الصحراء غيرها.

ما بعد المونديال
السؤال الأبرز الحاضر في ذهن الغالبية العظمى ولو عن طريق الدعابة "ما الذي سنفعله بعد المونديال؟"، فقد اعتاد الجميع يوميًا خلال كأس العالم طرح أسئلة مثل "من سيحضر المباراة في الاستاد اليوم؟" أو "أين سنكمل السهرة بعد المباراة؟"، فهل ستصيبهم كآبة ما بعد المونديال؟ آخرون ومنهم ناصر عبد الله الذي يؤكد أنه عاش "تجربة العمر خلال كأس العالم" كما يصفها، لكنه يفضّل عودة نظام حياته لما قبل المونديال "تنقصني ساعات نوم وراحة". بهذه الكلمات يلخص حالته، لكن صديقه محمد الجاسم يؤكد أن "قطر التي لا تنام هي الأجمل".

الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة، وما بعد 18 كانون الأول لن يكون كما قبله أبدًا، في هذا البلد الصغير مساحة، الذي فتح قلبه كبيرًا للعالم أجمع.