حسن نصرالله... قائد المقاومة لثلاثة عقود
اغتالت إسرائيل أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في 27 أيلول 2024. كان ذلك يومًا زلزل لبنان والمنطقة والعالم. وبعد 24 ساعة من الصمت المطبق، أصدر حزب الله البيان الأصعب في تاريخه: "التحق سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، برفاقه الشهداء العظام الخالدين الذين قاد مسيرتهم نحو 30 عامًا". كان نصر الله في مخيلة جمهوره الذي يمتد من لبنان إلى فلسطين والعراق واليمن وإيران وغيرها من الدول، "القائد الذي لا يُمس". قبل نحو أسبوعين من الذكرى السنوية الأولى لطوفان الأقصى في غزة، والذي من أجله فتح نصرالله ما أسماه "جبهة الإسناد" منذ 8 أكتوبر 2023، حققت إسرائيل أحد أكبر أهدافها المؤجلة منذ نحو ثلاثين عامًا، فاغتالت رأس حربة المقاومة في المنطقة.
شهد لبنان أسبوعًا هو الأكثر دموية وعنفًا منذ حرب 2006، التي استمرت نحو 33 يومًا بين إسرائيل وحزب الله. ثم أغارت الطائرات الإسرائيلية بنحو 85 قنبلة خارقة للتحصينات تزن طنًا من المتفجرات على حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، كاشفة للعالم سرًا كبيرًا: مكان القيادة المركزية تحت الأرض، والذي كان يعيش فيه نصرالله في الخفاء، بين أهله وناسه، وفي معقل المربع الأمني لحزب الله.
بعد تفجيرات "البيجر"، لم يدرك نصر الله أنه سيلقي خطابه الأخير في 19 أيلول، والذي قال فيه إن استمرار العدوان الإسرائيلي على الضاحية واغتيال قادة المقاومة، لن يُمكن الإسرائيليين من العودة إلى منازلهم في الشمال، وتوعد بمواصلة القتال وعدم عودتهم إلى حين انتهاء حرب إسرائيل في غزة.
الشخصية الاستثنائية
بعد تفجيرات "البيجر"، لم يدرك نصر الله أنه سيلقي خطابه الأخير في 19 أيلول، والذي قال فيه إن استمرار العدوان الإسرائيلي على الضاحية واغتيال قادة المقاومة، لن يُمكن الإسرائيليين من العودة إلى منازلهم في الشمال، وتوعد بمواصلة القتال وعدم عودتهم إلى حين انتهاء حرب إسرائيل في غزة.
الشخصية الاستثنائية
طوال عهده، بنى نصر الله في ذاكرة جمهوره شخصية السيد القائد، وكانت إطلالاته في خطاباته حدثًا مهيبًا في نظر أنصاره الذين يحتشدون للإصغاء إليه. كان يُنظر إليه أيضًا من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كعدو شرس، فكانوا يترقبون خطاباته، ويحللونه ويفكون تشفيراتها لأيام. شاع القول بأن الإسرائيليين كانوا يصدقون ما يقوله نصرالله ويأخذون تهديداته على محمل الجد، أكثر مما يصدقون قيادتهم.
يجتمع الأعداء والخصوم والأنصار على وصف نصر الله بصاحب الكاريزما الخطابية، فكان يتميز بالذكاء الحاد والصلابة في مخاطبة عدوه وجمهوره في آنٍ واحد، واشتهر برفع إصبعه كلما أراد توجيه رسائل وتهديدات.
ولد حسن عبد الكريم نصر الله، وهو ابن عائلة شيعية فقيرة، في 31 آب 1960 في بلدة البازورية القريبة من مدينة صور في جنوب لبنان. ومن هناك، انضم إلى حركة أمل، وبسبب صعوده الثوري، عُين مسؤولًا تنظيميًا للحركة في بلدة البازورية. انسحب من حركة أمل مع مجموعة كبيرة من المسؤولين في عام 1982. تزوج نصرالله من السيدة فاطمة ياسين، وأنجب منها 5 أبناء: هادي وزينب ومحمد جواد ومحمد مهدي ومحمد علي. في عام 1997، اغتالت إسرائيل ابنه البكر هادي في مواجهات في منطقة جبل الرفيع جنوب لبنان، واحتجز جثمانه إلى حين استعادته في عام 1998 ضمن عملية تبادل مع إسرائيل.
رسم نصرالله مساره منذ سن السادسة عشرة، حين توجه إلى مدينة النجف العراقية، حيث كان يقيم زعيم الثورة الإسلامية الإيرانية الراحل، آية الله روح الله الخميني. وبعدها، تلقى دروسه في مدينة قم في إيران. يُعد نصرالله، وهو الأمين العام الثالث لحزب الله، أحد أبرز مؤسسي الحزب الذي تشكل في لبنان من قبل أعضاء الحرس الثوري الإيراني في صيف 1982. في شباط 1992، انتخب مجلس شورى حزب الله حسن نصر الله أمينًا عامًا للحزب، بعد يومين من اغتيال الأمين العام السابق للحزب عباس الموسوي، خلال قصف مروحيات إسرائيلية لموكبه في الجنوب، بعد ساعات من كلمة ألقاها في ذكرى اغتيال الشيخ راغب حرب، أحد مؤسسي حزب الله.
محطات بارزة
محطات بارزة
قاد نصرالله أطول فترة ولاية في الأمانة العامة لحزب الله، امتدت لنحو 32 عامًا، تشكّل خلالها وعي جمهوره، فاختزل بشخصيته كيان ووجود حزب الله. وعقب نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1989، تمكن نصرالله بمساندة إيرانية، من تشكيل البنية العميقة لحزب الله، سواءً في ترسانته العسكرية أو في منظومته الرعائية الاجتماعية، حيث لعب دورًا في الدفع نحو تأسيس المدارس والمراكز التنظيمية والعيادات والمساكن لجمهوره.
ولعل أول حدث استثنائي في ولاية نصر الله، كان تحرير الجنوب في العام 2000، وانسحاب الجيش الإسرائيلي بعد احتلال دام نحو 22 عامًا. عقب التحرير، أدلى نصر الله بخطابٍ شهيرٍ طبع الذاكرة بوصف إسرائيل بـ "بيت العنكبوت"، قائلاً: "إن إسرائيل تمتلك سلاحًا نوويًا، وأقوى قوة جوية في المنطقة، ولكنها في الحقيقة أوهن من بيت العنكبوت". في العام 2004، لعب نصرالله دورًا محوريًا في إبرام واحدة من أكبر صفقات تبادل الأسرى مع إسرائيل، التي استعادت من خلالها القائد في جيشها "إلحنان تانينباوم" مع رفات ثلاثة جنود إسرائيليين. وتمكن الحزب بذلك من تحرير نحو 23 أسيرًا لبنانيًا، و5 أسرى سوريين، وأسير ليبي، و3 مغاربة، و3 سودانيين، و400 فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، وأسير ألماني.
لكن المحطة الأبرز في مسيرة نصرالله، كانت قيادته لحرب تموز 2006، التي بدأت على خلفية أسر الحزب لجنديين إسرائيليين يوم 12 تموز، واستمرت 33 يومًا، مما اضطر إسرائيل للانسحاب من جنوب لبنان دون تحقيق أهدافها. تسببت هذه الحرب بدمار هائل في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، وخرجت إسرائيل منها بنظرية سماها رئيس أركان الجيش السابق غادي آيزنكوت بـ "عقيدة الضاحية"، التي تعني العقاب الجماعي لسكان المدن والقرى الداعمة لتنظيمات المقاومة المسلحة ضد إسرائيل.
سياسيًا، وبعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في العام 2005، وفي ظل انقسام حاد شهده لبنان بين معسكري 8 آذار و14 آذار، حقق حزب الله مكاسب كبيرة في الانتخابات البرلمانية عقب انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام نفسه، وانضم حزب الله حينها لأول مرة إلى الحكومة. في السنوات اللاحقة، حكمت المحكمة الدولية في هولندا على ثلاثة أعضاء من حزب الله غيابيًا بالسجن المؤبد، بتهمة اغتيال الحريري، وهو ما دأب حزب الله على نفيه. لكن العام 2008، شكل وصمة كبيرة في تاريخ الحزب بقيادة نصرالله، عقب ما عرف بأحداث أيار، حين استولى مقاتلو الحزب لفترة وجيزة على جزء كبير من غرب بيروت.
كذلك، شكلت الحرب في سوريا في العام 2011، منعطفًا مفصليًا في تاريخ الحزب، حين انخرط نصرالله من خلال جنوده ومقاتليه للدفاع عن النظام السوري إلى جانب إيران، مما أدى إلى تراجع شعبيته عربيًا، وانقسام داخلي وإقليمي كبير حول دوره العسكري هناك. في السنوات اللاحقة، تسببت مواقف نصر الله وانخراط الحزب في الحرب السورية ودعمه للحوثيين في اليمن وفي دوره في العراق، باضطراب غير مسبوق في العلاقة مع الدول الخليجية. وفي العام 2016، وصف مجلس التعاون الخليجي الذي تقوده المملكة العربية السعودية حزب الله بأنه منظمة إرهابية. هكذا، عاش نصر الله حياته مختبئًا من مطاردة إسرائيل له، وها هي تنهي حياته بعد تكريس دوره في صناعة مفهوم "وحدة الساحات" بين فصائل المقاومة في المنطقة، التي تعيش أصعب امتحان بعد اغتيال أمين عام حزب الله.