صور... ورسائل حبّ للضاحية في زمن الحرب
في الصور أيضاً ما بعد التفجير. رجال على أقدامهم، وفوق أكتافهم حقائب مدرسية لأطفال أريد لدراستهم أن تنتهي. حقائب سفر، ومسير إلى اللامكان، في بلاد لم تعد كالبلاد، ويد تربّت أو تكفكف. دموع رجال ونساء، لكن دمعة الرجل تبقى أقسى في مواجهة مقاساة الدهر. لم تكن عملية الاغتيال هي العملية الأولى التي تجري في الضاحية الجنوبية لبيروت. تلك المنطقة التي اعتادت دماراً وحملات وتصفيات وعمليات اغتيال. وهي التي كانت بعيدة عن دوائر الاستهداف الحالية المفترضة. في الضاحية، مدنيون، وعائلات المقاتلين، فيها أحلام وطموحات.
تعود بي الصور إلى 20 سنة مضت. حين كنت أقطنها، أعرف شوارعها وحواريها. لي أصدقاء هناك، مدرسة، وذكريات، كما لكل القاطنين. ما بين الجاموس، والشارع الموازي له لجهة الحي الأبيض حيث حصل استهداف قادة فرقة الرضوان، وامتداداً إلى "القائم" وملعب الراية، وتفرعاً إلى "الاتوستراد" ومجمّع سيد الشهداء. هناك كان الحزب يحيي مناسباته، العرض العسكري في يوم القدس، المهرجانات الإحتفالية في "الراية"، والمسيرات العاشورائية، وذلك قبل "مركزة المناسبات والمهرجانات" في المجمع.
في الضاحية، اختراعات وابتكارات. تلك مدينة قائمة بذاتها، حيّة، لا تنام. لا ليل فيها، أناس على الطرقات، أفران، ومطاعم، ومراكز اللعب. في الضاحية، يتعرّف المرء على أصناف طعام جديدة منها "الكاميكاز". وفيها الكلّ يشعر بالرضى، في حياة اجتماعية مفتوحة ما بين الناس، تلك امرأة تطلب من جيرانها "تلقيمة القهوة" تستقرضها قبل أن تعيدها لها. وفي "الدُكان" يجري الطفل ليعود إلى البيت ببضع "بيضات" فيطلب "بألف بيض". في الضاحية، يمكن للفقير شراء "نصف ربطة خبز"، ومقدار "الطبخة" بدلاً من الكمية الأكبر التي يُلزم بها في المحال الاعتيادية.
في الضاحية، مقاتلون من أجيال مختلفة، لهم عائلاتهم، غالبيتهم، حطّوا في بيروت إما لعوز في الأطراف المنسية والمتروكة أو بفعل الاحتلال والتهجير. لهؤلاء حكاياهم، زياراتهم الأسبوعية إلى الجنوب أو البقاع. وفي العائلات فتية يتلقون العلم، يسافرون، ونسوة وفتيات، منهّن الملتزمات بالزي "الديني" أو التشادور، ومنهنّ اللواتي يتركن انسياب الشعر فوق الأكتاف يروي حريتهن بالاختيار. في الضاحية حكايات حبّ، إلى جانب حكايات وروايات الحرب. وإلى الضاحية رسائل حبّ في زمن الحرب.