انتخابات أميركية: أي أخلاق غربية في فلسطين
لا مجال للحديث عن الأخلاق في السياسة، عندما تكون السياسة كلها حديث موارد مادية، وحديث أسواق استهلاكية، وحديث استتباع وصراع على النفوذ، بواسطة أبناء البلاد المتصارِعَة أولاً، وبواسطة أبناء البلاد التي يدور الصراع عليها لاحقاً.
تتراجع الأخلاق إلى صفوف المؤسسات التربوية والتعليمية، ولا يتعدى وجودها حدود الكتب التي تتضمن نظرياتها، وما يخرج إلى العلن، وإلى ميدان الممارسة والعمل، تأويل الأخلاق السياسي، وابتكار صيغه التي تمجِّد الأمَّة المختارة، أو العرق المتفوق، أو الإيديولوجيا الخلاصية التي تسعى إلى وضع نقطة ختام "لنهاية التاريخ".
شكَّلت فلسطين مسرح اختبار للانحراف الأخلاقي السياسي العالمي، ثم صارت منبراً يتناوب على الكلام فوقه من احترف النفاق السياسي والتضليل الإعلامي والتزوير التاريخي. يتجلى كل ذلك في أصل المشكلة الأخلاقية الغربية في فلسطين، وفي كل متوالياتها التي ما زالت تتناسل مشاكل فرعية، تنتسب انتساباً لا لبس فيه، إلى عقيدة الخطيئة الأصلية، التي قادت السلوك الأخلاقي الغربي في فلسطين، وما زالت تمسك بعنقه، بعد أن صار لهذا السلوك مسوِّغاً أخلاقياً آخر، ابتكره "الغربي" ذاته، هو مسوغ "الأخلاقية الصهيونية"، حيال الشعب الذي كان بلا أرض، فجاء إلى الأرض التي بلا شعب... حسب الجمل الزائفة التي أنشئت تحت عناوينها الدولة المغتصبة، إسرائيل.
يكذب العالم السياسي الغربي عندما يظهر في هيئة من لا يعرف الواقع العربي، قبل احتلال فلسطين وبعدها، فما هو معلوم للقاصي والداني، أن "العقل" في الغرب يمارس علم الأحفوريات، ويبحث في الديناصورات وانقراضها، ويحتفي كل يوم بقطعة من هيكل عظمي تعين على الاقتراب من تحديد عمر الإنسان فوق هذه الأرض، لكن العقل ذاته، تتعطل آليات تفكيره عندما يتعلق الأمر بسؤال من هم سكان فلسطين الأصليون، ومن هو الشعب الذي كان راسخ الجذور فيها، ومن هم المستوطنون المحتلّون الغرباء، الذين حَمَلتْهُم إلى فلسطين أولاً، قرارات الأمم المستعمرة، ووسائل نقلها، البحرية وغير البحرية. يتعطل العقل الغربي لأنه يعرف أصل خطيئته، وبدلاً من أن يبادر راهناً، إلى تصحيح جوانب فرعية من هذه الخطيئة، نراه يمعن في السير حثيثاً على دروبها، أي إنه يتابع تغليف فعلته اللاّأخلاقية الماضية، بمزيد من أغلفة الأخلاق الرديئة العصرية، وبمزيد من أخلاقيات القتل الوحشية.
ومن حق العرب أن يجادلوا اليوم، بل أن يعلنوا ما هو معروف ومتداول، في أدبيات السياسة، وفي كتب التاريخ، أن "المسألة اليهودية"، هي مسألة غربية أولاً، وليست مسألة عربية في الأساس. جوهر المسألة اليهودية، هو اضطهاد العقل الغربي لليهود، وممارسة التمييز ضدهم، ودَفْعَهُم صوب "الغيتوات"، لسبب ديني، ولأسباب اقتصادية واجتماعية. لم يكن العقل الغربي متسامحاً حيال مواطنيّة اليهود، مثلما لم يكن متسامحاً حيال كل "الملونين" الذين أقاموا في البلاد التي اعتبرها هذا العقل بلاد اللون الواحد، حيث لا مجال لغير "الأبيض" الصافي اللون، أن يحتل المقاعد الأمامية في كل ما يرتبطُ بالشؤون الوطنية.
لقد حلَّ العقل الغربي معضلة موقفه غير الأخلاقي حيال اليهود، بموقف لا أخلاقي آخر حيال العرب، فاستهدف من ضمنهم الشعب الفلسطيني، استهدافاً استعماريّاً مقصوداً، ومدروساً، وما زال مستمرّاً في استهدافه الآن، من خلال دعم العدوان المتعاظم عليه.
في ذات سياق الحقوق العربية، يستطيع "العقل العربي"، أن يعلن بثقة ما كان في الديار العربية من تسامح حيال كل المكونات، عندما كانت الديار الغربية ديار تعصّب وتزمّت. في هذا المجال لن تكون تجربة الأندلس المثال الوحيد، ولن يكون موقف المواطنين العرب المسيحيين المثال الأخير، عندما دافع هؤلاء عن بلادهم ضد الفرس في العراق، وضد الحملة الصليبية في أرجاء البلاد التي وصلتها هذه الحملة. هذا التاريخ، لا تلغيه موجة التطرف الحالية التي تعصف بالمنطقة العربية، بل إن من حق العربي أن يعيد التذكير، بأن للسياسة الغربية اللاّأخلاقية، حصّة ثقيلة من أسباب هذه الموجة، وأثْقَلَ حصّة غربية، هي تلك المتعلقة بالسماح باحتلال فلسطين، وبالاستمرار في سياسة منع الشعب الفلسطيني من استرداد جزء من ذاكرته الوطنية فوق تراب أرضه التاريخية، وبتجديد عمليات اقتلاعه من الجغرافيا، من خلال آلة القتل الإسرائيلية، التي تحظى بدعم الأخلاقية الغربية الجديدة.
بعد قرن وسنوات على ارتكاب الخطيئة من قبل بريطانيا، التي كانت عظمى، أو بعد الفعلة اللاإنسانية واللاأخلاقية، والسياسية تلك، يتوجب على بريطانيا ذاتها، أن تتقدم الصفوف للاعتذار من فلسطين ومن الشعوب العربية، ومتابعة التقدم نحو سياسة تساعد على إعادة الاعتبار لشيء من الأخلاقية السياسية. هذا في التاريخ الاسترجاعي، أما في التاريخ اليومي، فيتوجب على الولايات المتحدة الأميركية، أن تمحو خطأ حليفتها، وأن لا تكتُب سيرة لا أخلاقية أميركية في كتاب التاريخ الأخلاقي.
هذا مؤدّاه، وبكلامٍ أوضح،
أولاً: مَنْعُ القتل المادي عن الشعب الفلسطيني، هو التصحيح التطبيقي الإنساني الأخلاقي، الذي ينبغي على الغرب، بقيادة الترامبية العائدة، المبادرة إليه.
وثانياً: فَرْضُ إنشاء الكيان الفلسطيني الصغير، فوق ما تبقى من أرض فلسطين، هو التصحيح السياسي الأخلاقي الذي يمنح غرب الخطيئة شيئاً من الغفران، بعد كل ما ارتكبته أيدي استعماره الغابرة... والحاضرة.