لبنان في "الأكورديون" الإيراني-الأميركي: وحدة الساحات وتجزئة الملفات

منير الربيع
السبت   2024/01/13
ما تعمل عليه الولايات المتحدة الأميركية حالياً هو تجزئة الساحات (Getty)

ينجم عن "لعبة كرة الطاولة" بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، عنوانان متناقضان. العنوان الأميركي هو تجزئة الملفات ووحدة المفاوضات. أما العنوان الإيراني فهو وحدة الساحات والجبهات والفصل بين الملفات. عملياً تحتكم منطقة الشرق الأوسط حالياً إلى هاتين المعادلتين المتناقضتين. علماً أنه منذ التفاوض الأميركي الإيراني المباشر في السنوات التي سبقت الاتفاق النووي في العام 2015، كانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تشدد على ضرورة حصر التفاوض بالملف النووي، وعدم التفاوض حول ترسيم مناطق النفوذ في المنطقة.

إيران وساحاتها
قبل حوالى سنتين عملت إيران على إحياء ما يسمى بمعادلة وحدة الساحات والجبهات، وهي تنص على التكامل بين هذه الجبهات في أي صراع قد يندلع. وعملياً، التحضير لوحدة الساحات هذه كان قد بدأ بعد انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي. وتكرس البحث بها بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، والذي نتج عنه تعزيز دور أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله الإقليمي، وخصوصاً في الملفين العراقي واليمني إلى جانب ملفي لبنان وسوريا. وبعدها جاء موعد إنشاء غرفة العمليات العسكرية المشتركة مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

لطالما اعتمدت ايران مبدأ تجزئة الملفات، ولدى بروز نية أي طرف دولي أو إقليمي للعمل في سبيل نسج تفاهمات حول الوضع في المنطقة، كانت طهران تعمل على حصر كل ملف بحلفائها المعنيين به، وتطالب هذه الدول التفاوض مع الحوثيين في اليمن، ومع حماس والجهاد في فلسطين، ومع الحشد الشعبي وحلفائها الآخرين في العراق، ومع حزب الله في لبنان. فيما كانت هناك وجهة نظر أخرى لدى الأميركيين والخليجيين، وخصوصاً السعوديين، أن التفاوض يفترض أن يكون مع إيران كراعية لكل هذه القوى.

السعودية وسياساتها
أسهم ذلك في رد فعل سلبي خليجي وسعودي تحديداً، وفضّلوا الابتعاد عن مثل هذه المسارات، فهم رفضوا أي مفاوضات مع حزب الله، باعتبار أنه ليس دولة. وهم أرادوا التعاطي من دولة إلى دولة. في سوريا تفاوضت السعودية مع النظام السوري. أما في اليمن، فهي لعبت دور الوسيط وتفاوض حلفاؤها اليمنيون مع الحوثيين. وبعدها حصل التواصل بينها وبين الأخيرين بعد إرساء نوع من التهدئة إثر الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية. ولا يزال هذا الاتفاق قائماً وسط مساعي الطرفين لعدم الإطاحة به في ظل التطورات الحاصلة.

هذه السياسة أنتجت ابتعاداً سعودياً عن تفاصيل الملفات، كما هو الحال في لبنان، من خلال دعوتها إلى إعادة انتاج السلطة بشكل يتلاءم مع تطلعاتها، وبعدها ستكون جاهزة للتدخل والانخراط والاهتمام. دون ذلك، فهي ستبقى بعيدة كما هو الحال بالنسبة إلى ملفات متعددة.

قادت هذه الوقائع السعودية إلى البحث عن تنويع التحالفات والعلاقات، وصولاً إلى اتفاق طريق الهند، مع الحفاظ على علاقة جيدة مع الصين صاحبة مشروع طريق الحرير. لتأتي عملية طوفان الأقصى وتهدد كل ما له علاقة بأي استقرار في المنطقة. فكان الرهان الإيراني على "طوفان الأقصى" لإرساء وقائع جديدة.
ما بعد هذه التطورات أبعدت السعودية نفسها عن مسار التصعيد والتوتر، فيما عادت لعبة كرة الطاولة بين إيران والولايات المتحدة، من فلسطين، إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان. تحرك كل حلفاء إيران دعماً لغزة ولما هو أبعد من ذلك. ما استدعى تقديم الأميركيين عرضاً واضحاً للاتفاق على تسوية حول المنطقة برمتها. لكن من غير المعروف إذا كانت هذه المفاوضات ستقود إلى نتيجة قبل الانتخابات الأميركية أم أنه لا بد من انتظار نتائجها.

أسئلة هوكشتاين
من الواضح، أن ما تعمل عليه الولايات المتحدة الأميركية حالياً هو تجزئة الساحات، ومحاولة فصل مسار الجبهة اللبنانية عن مسار الحرب في غزة. ولذا، كان المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين يشدد على ضرورة عدم ربط الوضع في لبنان بإيقاع الحرب على القطاع. وفي سياق عروضه التي قدمها لتخفيف التوتر ومنع التصعيد وتفاقم الأمور، ربطاً بتحضير الأرضية لاتفاق شامل، وجّه سؤالاً أساسياً حول مدى ارتباط لبنان بحرب غزة في حال تم الوصول إلى اتفاق هدنة طويل نسبياً قد يصل إلى شهر أو أكثر؟ سأل أيضاً، في حال تم إنجاز الاتفاق حول الوضع في الجنوب وتطبيق القرار 1701 وترسيم الحدود البرية خلال هذه المهلة، فهل في حال عادت الحرب على غزة، سيبقى لبنان ملتزماً بالاتفاق أم أنه سيعود إلى التصعيد؟ ومن هذا السؤال تفرّع سؤال آخر وهو "في حال تم وقف العمليات العسكرية بشكلها الحالي في غزة، وتم الانتقال إلى عمليات أمنية أو تصفيات مع وقف الاجتياح البرّي ومسار التدمير والعمليات الموسعة، هل حينها سيكون لبنان معنياً بالانخراط في المواجهات مجدداً؟

عملياً، لازم اللبنانيون موقفاً واضحاً، وهو ضرورة وقف إطلاق النار في غزة. علماً أنه تم الاتفاق على الاستمرار في تبادل الرسائل والأفكار، وفق المساعي التي يقودها هوكشتاين لفصل الجبهات.
الأمر نفسه تكرر في اليمن من خلال الضربات التي وجهت للحوثيين، لدفعهم إلى وقف الاعتداءات على الملاحة البحرية، فيما تعهد الحوثيون بعد الضربات بالردّ عليها، ليبق السجال الناري قائماً، في نزال إما يقود إلى فصل الجبهات فعلياً، أو يفرض تسوية شاملة. وهو ما يراهن عليه الإيرانيون على قاعدة أنه ما بعد التطورات اليمنية والعراقية وعلى وقع الحرب المستمرة في غزة، فلا بد من البحث عن مخرج لوقف التصعيد ومنع تمدد الاشتعال. إنها لعبة حافة الهاوية مجدداً، والتي يجيدها الإيرانيون غالباً.