حتى لا يتكرر تعطيل الانتخابات الرئاسية
تجربة الانتخابات الرئاسية سنة 2014 التي امتدت بسبب تعطيل النصاب نحو سنتين ونصف سنة، أشهرُ من أن نستذكرها، ولاسيما أن ذيولها الكارثية لم تزل تتفاقم. ولا يجوز أبداً تكرارها واستيلاد آثارها؛ فهي تؤْذن بأمور خطيرة جداً ليس من الحكمة تجاهلها والامتناع من بذل غاية الجهد لتحاشيها. ومعروف أن سببها اشتراط حضور ثلثي النواب لإجراء الدورتين الأولى والثانية من الانتخابات الرئاسية، وهو شرط يقال إن كتلة التنمية والتحرير قد استنتجته سنة 2014 بناء على استطلاع قامت به في المجلس النيابي، وسُجل في المحضر لعدم اعتراض أي نائب عليه، وعَدّه الرئيس بري نصاً ملزماً.
التنبؤ بمخاطر الثلث المعطل
ويبدو أن الأمر كان محل جدل دستوري قبل ذلك بأكثر من سبع سنوات، إذ نشر الدكتور حلمي الحجار مقالة هامة جداً في جريدة المستقبل اللبنانية بتاريخ 21/09/2007، ثم في جريدة اللواء بتاريخ 1/10/2007، أي قبل انتخاب العماد ميشال سليمان بنحو سنة، أبدى فيها رأيه في ذلك الجدل على ما سوف نرى، لكنه جدل لم يفْضِ إلى مشكلة عند انتخاب سليمان لأن النواب اللبنانيين كانوا قد اتفقوا على انتخابه في مؤتمر الدوحة، فنال 118 صوتاً من أصل 127 هو عدد النواب الأحياء، ولم يكن له منافس، في ما نعلم.
ومع ذلك وجدنا النائب والوزير السابق بطرس حرب يحدس بطريقة غير مباشرة مخاطرَ هذا العرف المزعوم أثناء ذلك الانتخاب سنة 2008، إذ اعترض هو والرئيس حسين الحسيني والنائبان نايلة معوض وجورج عدوان على ترشيح سليمان من غير أن يكون قد استقال من منصبه قبل سنتين، على ما يقتضيه انتخاب موظفي الفئة الأولى أو ما يكافئها، ومن غير أن يعدَّل الدستور لتجاوز هذه الحالة. فقد سأل بطرس حرب عن مصير الانتخابات إذا وقف "فريق من اللبنانيين ليقول: لديّ الثلث ولن أشارك في الانتخابات حتى انتهاء مهلة الشهرين، وعندئذٍ [...] ننتخب من حظّر عليه الدستور الانتخاب من دون الاستقالة قبل سنتين؟". لقد كان حرب طيب القلب لظنه أن بعضهم قد يعطل الانتخابات مدة شهرين فقط، ولم يخطر له قط أن الانتخابات ستعطل أكثر من سنتين في عام 2014. وفي الانتخابات المقبلة ستكون الحالة أشد تعقيداً لأن المجلس منقسم اليوم إلى مجموعتين متساويتين، كل مجموعة منهما تتمتع بما يزيد على الثلث، وبوسعها تعطيل الانتخابات إلى ما شاء الله.
اجتهاد ملتبس وضارّ
وقد بيّن الدكتور الحجار في دراسته القانونية المشار إليها خطأ القول بوجوب حضور ثلثي النواب من أجل إجراء الانتخاب الرئاسي في الدورة الأولى، موضحاً أن القائلين بذلك يخلطون بين نصاب الاجتماع القانوني لمجلس النواب وشرط حصول المرشح على ثلثي الأصوات ليفوز في الانتخاب، وأنه لا تلازم بين النصابين. ومن الأمثال التي ضربها للبرهان على ذلك الخطأ، أنه وفقاً للمادة 70 من الدستور يمكن أن يتهم المجلس بعض الوزراء أو رئيسهم أثناء انعقاده في جلسة عادية، وهذا يتطلب تصويت ثلثي النواب، فإذا اتفق وجود الثلثين وصوتوا على القرار صدر، وإلا سقط، من غير أن يمنع رئيس المجلس التصويت عليه لعدم توافر الثلثين. ثم إن نقض القاعدة العامة لا يُستنتج استنتاجاً ولا يأتي من طريق القياس، وإن فرض نصاب الثلثين لا يعد تفسيراً للنص بل هو زيادة عليه، أي تعديل للدستور. ونستنتج من هذه الدراسة أن شرط الفوز ليس هو نفسه شرط انعقاد النصاب القانوني الذي تعيّنه المادة 34 من الدستور، وهو حضور "الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفون" المجلس.
ويجب القول إن تلك المادة تشمل كل جلسات المجلس ولا تستثني إلا ما نص الدستور صراحة على نصاب خاص به كجلسة تعديل الدستور. وما دام الدستور لم ينص على أكثرية خاصة لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية فإنه يُرجع إلى القاعدة العامة وهي حضور الأكثرية المطلقة، بصرف النظر عن حاجة المرشح لأصوات الثلثين.
وإلى قريب من هذا سوف يذهب النائب السابق صلاح حنين في 17 نيسان 2014 ، قبيل موعد الانتخابات في ذلك العام بأقل من أسبوع، وهو أن النصاب القانوني لانعقاد مجلس النواب هو "النصف زائداً واحداً" أما شرط انتخاب رئيس الجمهورية في الدورة الأولى بغالبية الثلثين "فشرط انتخاب وليس شرط حضور"، وكذلك رأى النائبُ والوزير السابق أدمون رزق أن المشرّع "لم يشترط نصاباً للاجتماع في المجلس" يعني الاجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية، بل اشترط "حصول المرشح على ثلثي أعضاء المجلس النيابي في الدورة الأولى، وأن ينتخب بالنصف زائداً واحداً في الدورات التي تلي"، مشيراً إلى أن سيناريو تطيير النصاب هو "ممارسة غير ديموقراطية ولا أخلاقية ولا وطنية. فحق الغياب ممنوح للنائب في الحالات القصوى، مثل المرض أو السفر أو غيره، أما إذا كان الغياب بهدف التعطيل -وهي ممارسة سجّلت مراراً في الحياة السياسية اللبنانية بعد العام 1992- فهو تعطيل للممارسة الديموقراطية ونوع من التخلّي عن الصفة النيابية تحت طائلة إلغاء الصفة النيابية لصاحبها".
إشكالية استثنائية
والحقيقة أن هذه الإشكالية لم تطرح إلا في انتخاب العماد ميشال عون، وربما في انتخاب بشير الجميل، في ما نعلم؛ ذلك أن النواب كانوا يحضرون جلسات الانتخاب بكثافة، لا يكاد يتغيب منهم أحد، وكانت الدورات الانتخابية تجري، عند تعددها، في يوم واحد يلزم فيها النواب مجلسهم إلى أن يتم انتخاب أحد المرشحين، فكان الثلثان متوافرين دائماً، بصرف النظر عن اعتبار ذلك نصاب حضور أو نصاب انتخاب، حتى كان ترشيح بشير الجميل، فقد حاول مقاطعة الانتخاب عددٌ كبير من النواب، وأكثرهم مسلمون، واضطر الجميل إلى جلب كثير منهم عَنوة، ولا نعرف أَفَعَلَ ذلك رغبة في إكمال النصاب أم ليبرهن للرأي الدولي أنه ممثل لكل اللبنانيين. أما ترشيح العماد عون فقد جوبه بمعارضة واسعة، وكان رئيس المجلس لا يرغب في وصوله إلى سدة الرئاسة، فطرحت قضية الثلثين، ربما لأن عوناً لا يستطيع نيلهما، وحتى نيل الأكثرية المطلقة، على الأرجح، بدليل أن الأوراق البيض التي وضعها مؤيدوه في صندوق الاقتراع في الدورة الأولى بلغت 52 فقط، أي نحو 38 بالمئة من عدد النواب. وفي المقابل لم يكن منافسه جعجع لينال الأغلبية، في غالب الظن، ولذلك يخيل إلينا أن اجتهاد نبيه بري وكتلته في اعتماد نصاب الثلثين كان لإبعاد هذين المرشحَيْن معاً عن بعبدا، لكنها خطة انقلبت على خصوم عون، لأن أنصاره كانوا يملكون الثلث المعطل، فعطلوا الانتخابات تلك المدة الطويلة حتى رضخ لهم بقية النواب.
لقد أوجب الرئيس بري، إذن، حضور الثلثين على الرغم من كل تلك الآراء الدستورية السديدة، وليت الأمر اقتصر على الدورة الأولى، بل شمل الدورة الثانية من غير أي مسوّغ؛ والحقيقة أنه لو كان ذلك عرفاً لما اضطر رئيس المجلس إلى استطلاع آراء النواب في تفسير المادة 49 من الدستور المتصلة بهذا الشأن؛ علماً أن استطلاع الآراء لا يعد تصويتاً ولو لم يعترض النواب على نتيجته، فعدم الاعتراض لا يعني الموافقة بالضرورة، ولا يصح أن يبنى عليه تفسيرٌ لمادة دستورية، ولا اجتهاد مع وجود النص، أي نص المادة 34، ولا تحريم إلا بنص صريح كما يقرر الفقهاء، ومنع الانتخاب إلا في حضور الثلثين شبيه بتحريمه إلا بذلك الشرط.
والحق أن اشتراط الدستور نيل المرشح لثلثي الأصوات في الدورة الأولى لم يوضع للتعطيل، بل للبرهان على أن رئيس الجمهورية يمثل الجمهور الأوسع من اللبنانيين، فإن لم يتسن ذلك فُسح المجال لدورات أخرى تحاشياً للفراغ وشلل الدولة. ولهذا كانت الدورة الثانية تجرى بُعيد الدورة الأولى مباشرة ومن غير أن ينفضّ المجلس ومن غير أن يؤجل الانتخاب أياماً أو شهوراً أو سنوات، كالذي حدث سنة 2014 وأدخل البلاد في الفراغ الطويل والباهظ. لقد كانت بدعةً لا نظن أي دولة في العالم اتبعتها، ذلك لأن القوانين موضوعة لخدمة الأمة لا للإضرار بمصالحها.
روح المادة 75 من الدستور
إن النواب كانوا يعملون قبل سنة 2014 بوحي من المادة 75 من الدستور التي تنص على أن المجلس المجتمع "لانتخاب رئيس للجمهورية [...] هيئةٌ انتخابية لا هيئة تشريعية" وأنه "يترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الجمهورية من دون مناقشة أو أي عمل آخر"، وقد استُنتج من ذلك، على ما يبدو، أن الانتخاب يجب أن يجري بغير أي مهلة، وأن يمتنع كل عمل برلماني قبل إنجازه. وقد مضى العرف على ذلك قبل دستور الطائف وبعده، إلى أن انتهت ولاية الرئيس سليمان، فنُقض ذلك العرف، وجرت دورة انتخابية أولى لم ينل فيها أيٌّ من المرشحين الثلثين، على ما تقدم، ثم لم تجر دورة انتخابية ثانية بعد ذلك بحجة عدم اجتماع الثلثين، ورُفعت الجلسة على أن تتم دعوة المجلس إلى الاجتماع في مواعيد لاحقة، وجاءت المواعيد متباعدة، ونشأت بدعة تشريع الضرورة في ما بين تلك المواعيد. فهيئة المجلس هي التي خالفت العرف والدستور، ولا تستطيع إلزام المجالس التالية عادةً لا أساس لها، ولا دليل على أنها عرف؛ زد على ذلك أن النواب لم يكونوا في السابق مختلفين كاختلافهم اليوم، ولم يحدث أن غادر أي منهم قاعة الانتخاب في الدورة الثانية، أو اعتبر النصاب منقوصاً.
النتاج
وفي النتيجة، يجب أن تُجنَّب الانتخاباتُ الرئاسية الحِيَل والأحابيل القانونية، وأن يُتوخى الحرصُ على إنقاذ هذا الوطن لا إغراقه في صراعات فئوية وحزبية وطائفية ومحورية؛ وإلا فإن شبهات خطيرة ستحوم حول من يلجأ إلى التحذلق والابتزاز وعض الأصابع، وهو لا يعلم، وربما يعلم، أن أصابع الشعب لا الساسة هي التي تقع بين الأسنان والأنياب، وأن الابتزاز يضر بالأمة لا بالخصوم السياسيين، وأن التحذلق في الشأن العام احتيال يمارسه أهل السوء والجريمة. ولتجْرِ الانتخابات الرئاسية المقبلة بالنصاب الذي نصت عليها المادة 34 من الدستور، أي على اعتبار حضور الأكثرية المطلقة كافياً لإجراء الانتخابات، فإذا لم يتوافر الثلثان لأي مرشح، اعتبرت الجلسة دورة أولى وعُمد إلى إجراء دورة ثانية فوراً وبغير تأخير أو إرجاء، وبالنصاب العادي، فإن لم ينل أحد المرشحين الأكثرية المطلقة، جرت الدورة الثالثة على الطريقة نفسها، وهكذا دواليك حتى يخرج الدخان الأبيض من مدخنة البرلمان، إلا إذا اعتبروا عدم وجود مدخنة فيه حائلاً دستورياً دون إعلان النتيجة، نتيجة الانتخاب.