ماذا يُعدّ العابثون بالدستور..للرئيس والرئاسة
شاع في الآونة الأخيرة خبر يقول إن جماعة القصر يعدّون دراسة دستورية تنتهي إلى اجتهاد يؤكد حق رئيس الجمهورية في البقاء في القصر بعد انتهاء ولايته إذا كانت الحكومة اللبنانية مستقيلة، وعزز هذه الشائعة أن رئيس الجمهورية نفسه صرح يوماً بأنه لن يسلم الرئاسة للفراغ، لكنه لم يلبث أن أوضح بأنه لن يبقى في القصر دقيقة بعد انتهاء ولايته، وأنه يعني بتصريحه ذاك أن الفراغ ستملأه الحكومة بعده، ثم أكد هذا المعنى غير مرة، ولاسيما حين زاره وزراء الخارجية العرب أو من ناب عن بعضهم، إذ أعلن أنه في الثاني من تشرين الثاني المقبل سيكون مواطناً عادياً.
مقالة تزعم الاستناد إلى مرجع دستوري
لكن يبدو أن جماعة القصر لا تزال مصممة على سعيها، خلافاً لتصاريح الرئيس، وربما هي تعتقد أنه لطيبته سيقتنع باجتهادها ويبقى في القصر. وقد تجلى ذلك في مقالة نشرتها إحدى الصحف اللبنانية وتفشت كالكورونا في عدة مواقع إخبارية أولها الوكالة اللبنانية للإعلام، وليس آخرها موقع التيار الوطني الحر الإخباري الألكتروني.
تلك المقالة تنسب إلى مرجع دستوري غير مسمَّى أن المشترع يقصد بالحكومة التي تناط بها صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً، عند خلو سدة الرئاسة، حكومةً كاملة الصلاحيات، لاحكومة مستقيلة منزوعة الصلاحيات وتُصرّف الأعمال بالمعنى الضيق، وأن الرئيس المكلف ينتهي تكليفه بانتهاء ولاية رئيس الجمهورية.
والحقيقة أن هذه اللغة ليست لغة مرجع دستوري، بل لعل صاحبها منتحل صفة، علماً أن العلوم المتصلة بتوثيق الروايات ترفض الأخذ بمن تسميهم المجاهيل، أي غير المعروفين أو غير المسمَّيْن ولو من طريق الكناية. حتى الشاهد اللغوي المنسوب إلى مجهول لا يؤخذ به. والرواية التي تبدأ بعبارة قيل، أو قال أحدهم، أو قال الشاعر، أو ما أشبه ذلك توصف بالمريضة. وكم كثر أدعياء المرجعية الدستورية أو الفقه الدستوري في لبنان، حتى بتنا نظن أن كل محام، وكل صحافي يكتب أخبار المحاكم إنما هو مرجع دستوري. وقد يكون صاحب الرأي عالماً حقاً في القانون لكنه ذو أهواء حزبية أو طائفية، وهذا لا يمكن أن يعتد برأيه في شأن يتصل بحزبه أو طائفته، مهما علا شأنه العلمي. وهل من فقيه دستوري يصف الحكومة المستقيلة بأنها منزوعة الصلاحيات، ويكاد يقول منزوعة السلاح؟ ليس في الدستور ولا القانون ما يوصف بنزع الصلاحيات، في ما نعلم. ولقد يكون من المحتمل أن يكون ذلك رأيَ مرجع دستوري حقاً لكن العبارة عبارةُ كاتب يُدرج في الكلام ما ليس منه، أي يأخذ جزءاً من نص المرجع ثم يزيد عليه ما يوافق هواه. علماً أن نص الفقرة الثانية من المادة الدستورية 64 تدل على خلاف ذلك الزعم بالكلية، وهو أن الحكومة المستقيلة لا تمارس صلاحياتها، ولنضع خطاً تحت صلاحياتها، إلا «بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال»، فهي تحافظ على التمتع بتلك الصلاحيات لكن ضمن حدود ضيقة. وأما من حيث افتقار حكومة تصريف الأعمال إلى ثقة مجلس النواب كما يدعي بعض الذاهبين ذلك المذهب، فالحكومة الحالية التي باتت في حكم المستقيلة قد سبق لها أن حازت ثقة المجلس، وهي لم تُقل بسبب نزع المجلس الثقة عنها، ولا لأنها لم تستطع أن تتقدم منه لطلب ثقته، بل اعتبرت مستقيلة بعد انتخاب المجلس الجديد.
الدستور لا يشترط الصلاحيات الكاملة
وشيء أهم، هو أن الدستور لا يشترط في المادة 62 منه أن تكون الحكومة التي تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية أوان الفراغ الرئاسي كاملة الصلاحيات، بل ينص على «مجلس الوزراء» في المطلق وبغير أي شرط، حتى إنه لا يقول مجتمعاً، وإن كان المجلس لا يعدّ مجلساً إلا حين يجتمع، ولا يعد اجتماعه قانونياً حتى يحضره ثلثا أعضائه على الأقل.
ولنفترض افتراضاً مغلوطاً على طريقة علماء الرياضيات أن كمال الصلاحيات هو المقصود حقاً، فمجلس الوزراء في الحكومة المستقيلة يظل كامل الصلاحيات، لكنه يمارسها في حدود ضيقة. إن صلاحياته لا تنقص بل تضيق، وفرق بين الأمرين. فالطريق المضيّقة، مثلاً، تبقى طريقاً، ولا تنتفي عنها صفة الطريق. والإنسان يبقى إنساناً ولو أصبح دميماً بسبب حادث تعرض له، ولا يقال له قرد.
وفي كل الأحوال، فإن الدستور لا يسمح بالتمديد لرئيس الجمهورية، ولا حتى بإعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات، فبأي صفة يبقى في القصر ويحتفظ بمنصب الرئاسة؟ إنه، كما قال الرئيس عون نفسه: يصبح مواطناً عادياً، يعني أنه يصبح بغير سلطة دستورية. وليست الرئاسة ملكاً شخصياً حتى يسلمها لغيره أو يمنع تسليمها له، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولئن جرى تسلم وتسليم، فهو من قبيل اللياقة، وهو تسليم المنتهية ولايته إلى من ابتدأت ولايته، كما يسلم الوزير وزارته للوزير الجديد الذي يخلفه، وليس تسليم ملك خاص إلى وريث أو موهوب. ونظرية ملء الفراغ من أجل استمرار الحكم لا تصح في الرئيس المنتهية ولايته بل في الحكومة الواسعة الصلاحيات أو ضيقتها، سواء بسواء. ولا أعتقد أن التساؤل الذي نسب إلى المرجع الدستوري في هذا الشأن منقول بأمانة، أو صحيح النسبة، أعني تساؤله عما إذا كان الرئيس عون سيسّلم إلى رئيس جديد أو إلى الفراغ، يقصد تسليم الرئاسة؛ فمعروف أن هذه العبارة من صناعة القصر، ومن الصعب أن تصدر عن مرجع دستوري حيادي. وكذلك التحذير من أزمة تهدد مستقبل النظام السياسي القائم، وتفضي إلى التعطيل الكامل؛ هذا كلام سياسي لا دستوري، فاللغة الدستورية الرصينة لا تخفى على ذي علم، ولا تشبه هذه العبارات.
رأي دستوري أم تهديد؟
ولا شك في أن عبارتي «النظام السياسي القائم» و «التعطيل الكامل» تستوقفان القارئ. فما هو النظام الذي يُخشى على مستقبله؟ هذا التعبير المشبه للتهديد لا الكلام الدستوري يعني في صورة من الصور التخيير بين القبول بالممارسات غير الدستورية التي يراد لها أن تصبح أعرافاً دستورية، ولو بالإكراه، ولاسيما فرض إرادة رئيس الجمهورية على رئيس مجلس الوزراء في شأن التشكيلة الحكومية، أو ما وصفوه بالشراكة الكاملة في التأليف، مع أنهم تجاوزوا حتى معنى الشراكة إلى معنى الإلزام، وكذلك الرضوخ للرأي غير الدستوري الذي يبيح لرئيس الجمهورية اغتصاب السلطة عند انتهاء ولايته، أقول: إما القبول بذلك أو الذهاب إلى نظام جديد في لبنان ما زال غلاة الطائفية يطالبون به ويسعون إلى عقد مؤتمر تأسيسي من أجله، أي النظام الفيدرالي، في أرجح الظن، ولو تحت عنوان اللامركزية الإدارية الموسعة. إنه تخيير بين القبول بمجافاة ما صار واضحاً ويكاد أن يكون مسلمة عند الجميع، أو الطلاق.
وما صار واضحاً لا لبس فيه أن إصدار المرسوم لا يعني اتخاذ القرار ولا المشاركة فيه بل توقيعه وإعلانه، وأنه لو لم يكن الأمر كذلك لحقّ لرئيس الجمهورية أن يشارك النواب في اختيار رئيس الوزراء، لأنه هو الذي يصدر مرسوم تسميته بناء على الاستشارات النيابية الملزمة (المادة 53، الفقرة 3)؛ والحقيقة أن النواب وحدهم هم الذين يختارون ولا يكون على رئيس الجمهورية إلا تسجيل اختياراتهم وإبلاغها لرئيس مجلس النواب ثم للرئيس المكلف من قِبَلهم. وعبارة يُصدر مرسوم التأليف «بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء» تعني أنه يصدره معه، لا أنه يشاركه في تأليف الحكومة، وإلا لكان على المشترع أن يشير في الفقرة الثانية من المادة الدستورية 64 إلى أن رئيس مجلس الوزراء «يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة» بمشاركة رئيس الجمهورية، وليس الأمر كذلك. وهذه الفقرة توضح معنى عبارة «بالاتفاق» وهو معنى المعية ليس غير، إذ تقول :«ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها». لكن جماعة القصر يريدون على ما صار معروفاً إلغاء الدستور بالممارسة والعودة إلى النظام شبه الرئاسي، وربما الرئاسي إذا استطاعوا، لكن من غير أن يكون انتخاب الرئيس انتخاباً مباشراً، أي من الشعب. يريدون امتيازات النظام الرئاسي ولا يقبلون التزام قواعده.
أما التعطيل الكامل، وهو تعبير سياسي لا دستوري أيضاً، فسلاح استُخدم في الانتخابات الرئاسية الماضية وفي تأليف الحكومات. ولا حاجة إلى وصف نتائج استخدامه، فآثاره واضحة في ما وصل إليه لبنان. فهل سيحاول هؤلاء تعطيل الانتخابات والدولة أو اغتصاب السلطة من جديد؟ ربما، لكن من غير المعتقد أن حلفاءهم سيجارونهم هذه المرة، ولن يجدوا لهم نصيراً، إلا أن يلجأوا إلى نشر الفوضى والبلبلة، وذلك أمر خطير ولا ندري من سيقف وراءهم فيه.
الصلاحيات اللصيقة برئيس الجمهورية
وقد تحدث أحد الاختصاصيين في القانون، ولا أقول الخبراء ولا المراجع، على أحد المواقع الإخبارية الحزبية الطائفية، وباسمه الصريح، في ما يبدو رداً على مقولة ملء الرئيس المنتهية ولايته للفراغ، فنفى أيضاً دستورية ذلك، لكن بطريقة تختلف عن طريقتنا، وإن كانت تلتقي معها، بَيْدَ أنه أكد مقولة أخرى كان ولا يزال يكررها في وسائل الإعلام المرئية، وربما في غيرها، متأثراً، على ما يبدو، بخلفيته الحزبية الطائفية، وهي أن الحكومة التي تتولى صلاحيات الرئيس وكالةً يمتنع عليها ممارسة الصلاحيات اللصيقة به، مثل إصدار مرسوم تشكيل الحكومة. ونحن لا نرى سنداً لهذه المقولة، فليس في الدستور ما يسمى صلاحيات لصيقة وأخرى غير لصيقة، بل فيه صلاحيتان يتمتع بهما رئيس الجمهورية منفرداً هما إصدار مراسيم تسمية رئيس مجلس الوزراء وقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، وأما سائر الصلاحيات فيشاركه فيها رئيس مجلس الوزراء، ولاسيما صلاحية إصدار مرسوم تشكيل الحكومة. ونحن نميل إلى الظن بأن وكالة مجلس الوزراء في هذا الشأن ليست حصرية، بل هي شاملة، ويستطيع هذا المجلس عند الضرورة أن يصدر حتى مرسوم تشكيل الحكومة، ما دامت أي حكومة غير قادرة على ممارسة صلاحياتها إلا بعد نيلها ثقة مجلس النواب، وما دامت تعدّ مستقيلة عند بدء ولاية رئيس الجمهورية، فالمصلحة العامة فوق كل اعتبار، والضرورات تبيح المحظورات. وقد بادرت إحدى الحكومات المعتبرة المستقيلة في بعض الدول المتقدمة إلى أعلان الحرب واتخاذ القرارات المصيرية المتصلة بها، وهذا أخطر من تأليف الحكومات.
السفينة تغرق والنوتيّ يساوم
إنه ليتملكنا العجب، في النهاية، ونحن نرى السفينة تتحطم في العاصفة، وتغمرها مياه البحر، ثم يتناهى إلينا أن النوتيّ الذي جرفت الأمواج حذاءه، واختطفت الرياح قبعته، يساوم الركاب في أجرة الرحلة، ويأبى إعطاءهم ستر النجاة ما لم ينادوه بسيدي القبطان، وهو يعلم أنه وأنهم على قاب قوسين أو أدنى من الموت. إنه الجنون، ولا وصف يصلح لهذه الحال غيره!