صناديق للتغيير.. وصناديق للعقاب!
منذ عشرة أيام، لم يتوقف هاتفي عن تلقي الاتصالات والرسائل النصية المستوضحة عن لوائح التغيير في مختلف الدوائر الانتخابية، علما أنني لست منخرطاً مباشرة في الانتخابات، والمتصلون بأغلبيتهم ليسوا من الناشطين أو من مدمني الاهتمام بالشأن السياسي.
الاندفاعة الحماسية
لست وحدي. هواتف العديد ممن أعرف، ومواقع التواصل الاجتماعي، بين لبنان ودول الاغتراب، تضج بالاستفسارات والنقاشات عن لوائح المرشحين المحسوبين على قوى التغيير في هذه الدائرة أو تلك. لم يشهد لبنان هذه الفورة في أي من الانتخابات السابقة. أعتقد ان ثمة حمّى انتخابية عفوية آخذة بالتشكل، ذلك على الرغم من أن التحضير للانتخابات، خصوصاً في مرحلة الترشح وتشكيل اللوائح، لم ترتق إلى مستوى انتظارات اللبنانيين، أقله الشريحة الحداثية الواسعة منهم التوّاقة إلى التغيير وإلى وقف الانحدار المتواصل نحو الجحيم، الذي يقوده التحالف الممسك بالسلطة بقيادة حزب الله.
هذا الحراك العفوي القاعدي، الذي لا يقوده فعلياً أحد، والذي تضاعف في عطلة نهاية الأسبوع على وقع ما تنقله الشاشات من اندفاعة حماسية غير مسبوقة للجاليات اللبنانية في معظم بلدان الاغتراب، مؤشر ذو دلالة إيجابية يجدر التوقف عندها. على طريقة 17 تشرين، الناس تبادر، تقوم بقسطها من الواجب، تسعى إلى سد الفجوة بين ما هو مطلوب لإحداث التغيير وما هو معروض من قبل المجموعات السياسية والمدنية. الجديد في الموضوع أن انتظارات الناس باتت أكثر نضجاً وواقعية. ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.
عسى المجموعات ولوائح التغيير على أنواعها تتلقف هذه الهدية، تستوعب هذا الدرس البليغ.
المعارضات والإدارة الانتخابية
لضعف في الرؤية والبنية القيادية، وربما لظروف موضوعية قاهرة، لم تتمكن القوى والمجموعات الجديدة المتماهية مع انتفاضة 17 تشرين من بلورة مشروع سياسي متماسك، قادر على استقطاب وتأطير تلك الشريحة العريضة في لبنان والمهجر التواقة إلى التغيير، وبالتالي اقتراح خريطة طريق للتغيير وبرنامج انتخابي، وصولاً إلى لوائح موحدة لكل الدوائر، ما كان ليعطي هذا التغيير مساحة أكبر وحظوظاً مضاعفة.
من نافل القول أيضاً أن المعارضة التقليدية، التي انهكتها لا بل عرّتها في السنوات الأخيرة المشاركة الهامشية في فتات السلطة على طاولة المحاصصة، مقابل تجيير القرارات الاستراتيجية إلى حزب الله، هي أيضا أعجز من تقديم البديل. بعضها يخوض معارك دفاعية في مناطق نفوذه التقليدي، البعض الآخر آثر بكل بساطة الانكفاء من دون تقديم أية خيارات مقنعة لمريديه، والبعض الثالث انصرف للملمة التداعيات الكارثية لهذا الانكفاء.
فضلاً عن ذلك، الأطراف المتناثرة لكل تلك المعارضات، الذين يتشاركون أقلّه في الخصومة مع النواة الصلبة للتحالف الحاكم، لم يفلحوا، تقريباً كلهم، في اعتماد إدارة انتخابية تتسم بالواقعية والنضج والشجاعة الأدبية، حيال أولوية انتزاع أكبر عدد من المقاعد من هذا التحالف، وبالتالي تقدير الموقف الانتخابي على هذا الأساس، وليس على قاعدة زرع أكبر عدد من المرشحين واللوائح الذاتية في أكبر عدد من الدوائر.
هذا المشهد، المحبط من حيث المبدأ، كان إلى حد ما متوقعاً منذ انحسار حركة الاحتجاج الشعبي في الشارع بعد القمع الوحشي الذي تعرضت له، والاعتداءات المتكررة وإحراق خيم الاعتصام في وسط بيروت على يد الميليشيات الطائفية المستترة بشعارات الشيعية السياسية، وتضافر هذا القمع مع جائحة كورونا، والأزمة الاقتصادية-الاجتماعية الخانقة، واتساع حركة الهجرة لدى الشابات والشباب والكوادر الذين يشكلون العمود الفقري لتلك الانتفاضة.
الاستنفار والترهيب
في المقابل، ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، أجرت قوى السلطة، خصوصاً ثلاثي حزب الله، حركة أمل والفريق التابع لرئيس الجمهورية، عملية استنفار وحشد غير مسبوقين. أحزاب متنافرة ومرشحون متناقضون يتبادلون الشتائم والاتهامات والتخوين جهاراً نهاراً أُمروا بالجلوس في لوائح موحدة. وحيث تعذر ذلك لأسباب تتعلق بالتنافس على منصب رئاسة الجمهورية، أستدعي هؤلاء للجلوس معاً إلى موائد الإفطار المفتعلة. المناطق ذات الأغلبية الشيعية أُقفلت اقفالاً سياسياً وأمنياً محكماً، حيث بات تشكيل أي لائحة منافسة لتحالف حزب الله-أمل يرتقي إلى مصاف العمل الاستشهادي من حيث درجة المخاطرة، وذلك ضمن توزّع حزبي وإعلامي مدروس لمهام القمع والتنكيل والترهيب. مناصرو حركة أمل يتولون الاعتداء الجسدي الفاقع على مرشحي ومرشحات المعارضة في دائرة صور-الزهراني، فيما حزب الله يتولى الضغط الأمني والترهيب السياسي على لوائح المعارضة في بعلبك-الهرمل. والصحافة الصفراء والجيوش الإلكترونية يتوليان مهام الاغتيال المعنوي والتخوين لكل من يخالفهم الرأي، خصوصاً في البيئة الشيعية.
التصويت المفيد
لا شك أن تلك الإجراءات القمعية ستحول دون تظهير التنوع السياسي النسبي الموجود في المجتمع الشيعي داخل البرلمان المقبل، إلا انها ذات مفعول عكسي كبير في سائر المناطق اللبنانية، حيث تتبارى سائر القوى في أخذ المسافة من حزب الله، لا بل في التبرؤ من العلاقة معه، حتى من قبل المرشحين الذين كانوا يتشاركون معه يوما القوائم الانتخابية نفسها. الثمن السياسي الأكبر سيسدده فريق رئيس الجمهورية الذي تخلى مرغماً ومسبقاً عن تقديم مرشحين إلى عدد من المقاعد النيابية التي يشغلها الآن، فيما مصير عدد آخر من تلك المقاعد يعتمد حصراً على السخاء في تجيير الأصوات من قبل حزب الله. معظم النخب المسيحية، السياسية والاقتصادية والدينية، وجزء كبير من الرأي العام المسيحي، باتوا يحمّلون هذا التيار المسؤولية الأكبر في التسبب بالانهيار، ورئيسه الحالي الذي يطمح إلى وراثة منصب رئاسة الجمهورية يخضع لعقوبات أميركية بتهمة الفساد.
قد لا يكون وضع المعارضة، أو المعارضات المتعددة، مثالياً من حيث الاستعداد للانتخابات، أو تقديم أفضل صورة ممكنة للناخبين، لكن المواطن اللبناني، المغترب قسراً، أو المقيم الغاضب والمحبط والمفقر والمحتجزة أمواله في المصارف، والعاطل عن العمل، والعاجز عن تسديد أقساط المدارس وفواتير المستشفيات وأجور الأطباء وثمن الدواء والغذاء والملبس وإيجار المنزل، والموصدة في وجهه أبواب المستقبل، بات يدرك تماماً مسببات محنته، وبإمكانه أن يجد، في معظم الدوائر، مرشحاً معارضاً أو لائحة معارضة، يجسد أو تجسد جزءاً من رؤيته وتطلعاته، إن لم يكن كلها. وفي العديد من الدوائر، تتعدد الخيارات "المفيدة" إذا جاز التعبير. وحيث لا يتوافر "التصويت المفيد"، هناك حتماً إمكانية لممارسة "التصويت العقابي"، أي مجرد التصويت ضد من أوصل لبنان إلى هذا الدرك من جهنم.