الشعبوية تفتك بخطة التعافي
إحدى شوائب الديموقراطية أنها تُخضع أحياناً مصير قضايا ذات أبعاد معرفية معقّدة لقرار ومشيئة ما يعرف بـ"الرأي العام"، حيث يتساوى في التأثير صوت "من يعلم" بصوت "من لا يعلم" أو "يعلم قليلاً"، إذا جاز التعبير. هذا ثمن ارتضته المجتمعات التي تعتنق الديموقراطية، باعتبارها أقل مخاطرة وأقل كلفة في المحصلة من الأنظمة الأخرى المرتكزة إلى حكم النخبة المغلقة، سواء كانت عسكرية أو دينية أو قبلية أو أيديولوجية.
الشعبوية وتحريف الديموقراطية
من هذه الثغرة بالتحديد في جدار الديموقراطية تتسلل الشعبوية، حيث تعمد الأحزاب والقيادات التي تستسهل هذا الخيار، خصوصاً في المواسم والاستحقاقات الانتخابية، إلى التركيز على ما يطرب الأذن والعقل الباطن، ويحاكي الأساطير والهواجس، ويثير المشاعر الجياشة والعواطف. تلك الحواس والمؤثرات هي بالطبع الأقل نفعاً، إن لم تكن الأكثر ضرراً، لدى اتخاذ القرارات والخيارات المهمة أو المصيرية.
هكذا بالضبط، أي من بوابة الشعبوية، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلافاً لمصالحها الأساسية، من خلال استفتاء "على المنخار" عام 2016. وهكذا أوشكت فرنسا مؤخراً، وهي أعرق ديموقراطية في الأزمنة الحديثة ومهد الإعلان العالمي لحقوق الانسان، على تسليم مصيرها إلى حزب متخلف يمارس السياسة على أساس الهوية الإثنية. وهي لم تنجُ تماماً بعد من هذا الامتحان. في الحالة الأوروبية، هناك حتماً عوامل أخرى مساعدة تتعلق بتحديات العولمة والتحول الرقمي وإخفاق القوى الديموقراطية الكلاسيكية من داخل المؤسسة وقصورها عن المواءمة والتكيف. على الرغم من تكرار تلك الانتكاسات، الاعتقاد الغالب اليوم أن الديموقراطيات العريقة ما زالت قادرة، حتى إشعار آخر، على ابتكار آليات تصحيح ذاتي وتعويض عن تلك الثغرات والشوائب.
في المجتمعات الأخرى، شبه الديموقراطية أو قيد التحول الديموقراطي، كحالنا في لبنان، تضطلع الشعبوية في الأصل بأدوار أكثر خطورة وأكثر تحريفاً لجوهر العملية الديموقراطية. كذلك ظهرت في السنوات الأخيرة علامة استفهام كبرى حول حصيلة الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي من ناحية تعزيز الشعبوية أو الحد منها. بعد موجة أولى صحية في السنوات الأولى، يبدو الآن أن الاحتمال الأول هو الراجح، وذلك في ضوء غلبة حضور الغوغاء و"الذباب الالكتروني" المنظم والماكينات السلطوية والحزبية على منصات التواصل، بالمقارنة مع الانحسار التدريجي للأقلام النقدية وأشكال التعبير الفردي الحر، المتفلت من قيود السلطات على أنواعها. ما يعزز هذا التخوف عندنا أن أحزاب وقوى السلطة، بفعل تجربة لبنان الخاصة، منفتحة على استخدام وتوظيف آخر أدوات ومنتجات الحداثة مع التنكر الفاقع لجوهر قيمها ومبادئها.
ألغام الكابيتال كونترول وشوائبه
محطة بارزة مؤخراً لطغيان الشعبوية عندنا هي إجهاض مشروع قانون "الكابيتال كونترول"، الذي يشكل أحد بنود الاتفاق الأولي، على مستوى الخبراء، مع صندوق النقد.
لا شك أن مشروع القانون المذكور كان حافلاً بالألغام والشوائب. حتى الاتفاق مع صندوق النقد برمّته تعتريه علامات استفهام يجب أن تخضع للتوضيح وللنقاش العام والتعديل، كذلك ما يسمى "خطة التعافي" المنسوبة للحكومة، والتي لم تنشر رسمياً بعد، وما نعرفه عنها لا يدعو إلى الاطمئنان والاستكانة. على الرغم من كل ذلك، فإن التفاهم مع الصندوق هو خريطة الطريق الوحيدة الموضوعة على الطاولة حتى الآن من أجل وقف الانهيار الشامل، وتثبيت الوضعين المالي والنقدي، وتصحيح ميزان المدفوعات واستعادة النمو.
من أبرز القضايا المثيرة للجدل في مشروع قانون "الكابيتال كونترول" اثنتان: صلاحيات "اللجنة الخاصة" المولج بها وضع وتنفيذ آلية فرض القيود والاستثناءات على القيود، ودور مصرف لبنان داخل هذه اللجنة؛ ومصير الدعاوى بوجه المصارف والمتعلقة بالسحوبات والتحويلات، المقدمة سابقاً والتي ستقدم لاحقاً.
بدل أن يتركز النقاش والاعتراض على النقطتين المحوريتين المذكورتين، تعمدت أحزاب السلطة، خصوصا تلك الممثلة في الحكومة، حرف النقاش إلى مكان آخر، وهمي أو مفترض، هو توزيع الخسائر ضمن ما يسمى "خطة التعافي"، في حين أن مشروع القانون حول "الكابيتال كونترول" لا يتضمن إجراءات أو تدابير تتعلق بتوزيع الخسائر أو "قص الشعر" كما نسب إليه. تلك هي الشعبوية بعينها.
المعارضة تفوّت الفرصة
أما حزب السلطة الرئيسي فذهب كما العادة إلى ما هو أبعد. فهو تقدم باقتراح قانون معجل يطلب فيه "اعتبار الودائع في المصارف محمية ومصونة ويتعين عدم المس بها في أي خطة تضعها الحكومة". طبعاً المادة الوحيدة التي يتألف منها الاقتراح لا تتسع لذكر من أين ستأتي الحكومة، التي يتمتع فيها الحزب بالنفوذ الأكبر، بالـ100 مليار دولار الضرورية لتعويض الفجوة في الودائع المقترح صونها وحمايتها، في حين تجهد تلك الحكومة نفسها لتسوّل 3 مليارات دولار من صندوق النقد لتمويل إطلاق خطة التعافي.
في زمن الانتخابات، اقتراح القوانين لا يكلف فلساً واحداً، طالما أن المجلس الحالي يلفظ أنفاسه.. واعتبار أن ذاكرة الناخبين والمودعين قصيرة.
لو اقتصرت الشعبوية وما بعدها على الحزب الحاكم ومن يدور في فلكه، لهان الأمر وسهل فهمه واستيعابه. بعض أحزاب المعارضة انخرطت في اللعبة واستسهلت نسف مشروع قانون "الكابيتال كونترول" من أساسه، بدل تصويب النقاش وتحدي السلطة في مكمن مأزقها، أي السعي إلى إقرار قانون خال من الشوائب والألغام المزروعة من قبل مراكز النفوذ والمواقع النيابية، العاملة بتوجيه من مصرف لبنان أو من بعض المصارف أو من الجهة السياسية الوصية على وزارة المال. حتى قوى التغيير ونقابات المهن الحرة، التي يفترض أنها أكثر وعياً وأكثر تحرراً من قيود السلطة، والأكثر التزاماً بتقديم بدائل تنسجم مع المصلحة العامة، لم يرتق أداؤها في هذا الملف إلى المستوى المطلوب، حيث ركزت مطالبها هي أيضاً على حماية الودائع. وهو بالطبع مطلب محق تماماً إنما في غير مكانه وزمانه الملائمين.
بالنسبة إلى المعارضة وقوى التغيير بالتحديد، ثمة نقطة فائقة الأهمية يتناولها مشروع القانون في مادته الرابعة، وهي "نقل الأموال عبر الحدود"، والتي لم تعالج أو تستثمر سياسياً، بالمعنى المشروع للكلمة، كما ينبغي. كيف يُطبَّق الكابيتال كونترول أو ضبط التحويلات في دولة لديها 48 نقطة عبور برية غير شرعية، ومعابرها "الشرعية" من مطار ومرافئ غير مضبوطة؟ كيف فات المعارضة، أو المعارضات، أن تجعل من هذه النقطة إحدى عناوين النقاش في هذا المجال؟
فيما لبنان يواصل انحداره نحو الجحيم، رُحّل النقاش في الكابيتال كونترول وسائر مرتكزات الاتفاق مع صندوق النقد وإقرار القوانين والإصلاحات ذات الصلة إلى حكومة جديدة تأتي بعد الانتخابات، لا أحد يمكنه التنبؤ بتاريخ ولادتها.