فليبقى الغاز رابضاً في جوف البحر!
بعد أسبوع على زيارة آموس هوكشتاين، يمكن استخلاص أمرين. الأول هو تأكيد المؤكد، أي انخراط لا بل التزام كل أطراف السلطة في آلية التفاوض والترسيم، من هم في الواجهة ومن يمسكون بالريموت كونترول، داخل لبنان وخارجه، مهما تعالت أصوات المنددين والمحذرين من التطبيع. الأمر الثاني هو التخلي عن الخط 29 رسمياً، بعدما كانت الشكوك بدأت ترتسم حول مغزى عدم توثيقه من قبل السلطات اللبنانية، لا في مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء ولا في كتاب يودع في الأمم المتحدة.
مسألة ثالثة أثارها المبعوث الأميركي بدت من خارج السياق هي الربط غير المباشر، بأسلوب العصا والجزرة، بين إحراز تقدم في المفاوضات مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية من ناحية، والاستفادة من عروض التزود الطارئ بالطاقة من مصر والأردن برعاية أميركية من ناحية أخرى. المسؤول الأميركي لم يقلها بهذا الوضوح إنما أوحى أن ترياق الغاز المصري والكهرباء الأردنية الذي يستميت لبنان للحصول عليه، من أجل تأمين بضعة ساعات من التغذية، قد يتوفر بسرعة أكبر لو تحركت عجلة المفاوضات من دون إبطاء. هكذا تمضي الولايات المتحدة قدماً في بناء توازن استراتيجي مع طهران أحد ركائزه "الطاقة مقابل السلاح".
الخط 29 وكاريش
لماذا تستعجل واشنطن الآن استئناف تلك المفاوضات التي توقفت العام الماضي بعد إشهار المفاوض اللبناني سيف الخط 29 في وجه اسرائيل؟ ولماذا تستخدم الآن في سبيل ذلك كل وسائل الإقناع الممكنة؟ لا شك أن لدى الإدارة الأميركية أكثر من دافع، بعيد المدى أو ظرفي، ومنها على سبيل المثال الحاجة الى إعادة تنظيم خطوط الغاز والطاقة في ضوء سيناريو انقطاع إمداد أوروبا الغربية بالغاز الروسي نتيجة التوتر واحتمالات الحرب في أوكرانيا، وهي تجري الآن ترتيبات دولية وإقليمية في هذا المجال. إنما الدافع الأميركي المباشر الأهم في موضوع التفاوض اللبناني-الإسرائيلي هو حاجة إسرائيل إلى اتفاق سريع يؤمن لها إطاراً قانونياً مستقراً لاستخراج الغاز، ويعطي الشركات العالمية المتعاقدة أو تلك المهتمة بالتعاقد معها ضمانات صلبة حول مستقبل استثماراتها.
في أقصى شمال المنطقة التي تعمل فيها إسرائيل يقع حقل كاريش. المشكلة بالنسبة إليها أن الخط 29 يقطع كاريش إلى نصفين تقريباً، ويضرب في حال تثبيته حق تفرد إسرائيل في ملكيته، وهي التي تراهن على افتتاح العمل فيه خلال أسابيع. إن تخلي لبنان عن الخط 29، إذا تكرس، يعني أن إسرائيل تكون قد نجحت في إخراج حقل كاريش الاستراتيجي من دائرة النزاع مع لبنان حتى قبل الشروع في التفاوض معه. الاستنتاج الثاني أنها تكون قد نجحت أيضاً في إخراج المفاوضات، أية مفاوضات مقبلة، عن مرجعية قانون البحار الذي يستند إليها ترسيم الخط 29، وتكون قد وضعتها في ملعب ميزان القوى فحسب، أي في إطار من يملك الباع الأكبر والدعم الدولي الأكبر والتماسك الداخلي الأكبر.
الساحة المفتوحة والغنائم
في هذه الحالة لا يصعب كثيراً تقدير الموقف والتكهن بميزان القوى بين الطرفين، في ظل انهيار عام يعيشه لبنان وأزمة اقتصادية من الأكثر قسوة في التاريخ الحديث، وشعب مفقر ودولة مفككة مفلسة، وسلطة فاسدة يطغى على أركانها المصالح الخاصة والعائلية، وحزب مدجج بالسلاح يحترف الحروب والصراعات الإقليمية بالوكالة على حساب لبنان ومصالح العربية والدولية.
ولا يصعب كذلك تصور اختراق موقف المفاوض اللبناني، أو المفاوضين اللبنانيين، وما أكثرهم حول الطاولة وتحتها وخلفها، بإغراء برفع العقوبات من هنا مثلاً، أو بالتهديد بتشديدها من هناك، أو بتجديد ولاية من هنا أو توريث من هناك، أو حتى بتساهل نووي في فيينا أو تشدد صاروخي في الخليج، أو تصعيد في اليمن أو تراخ في العراق! لما لا، وساحة السلطة في لبنان مفتوحة على كل هذه المفاتن الداخلية والولاءات الإقليمية والبازارات الدولية.
كما لا يصعب التلويح بالغنائم الدسمة المرافقة. إذا كانت عوائد استخراج الغاز لن تتحقق قبل خمس إلى ست سنوات من بدء التنقيب، فإن الرهان المباشر هو على الاستفادة الفورية من الاستثمارات التي ستضخّها الشركات المشغلة في البحر وفي البر، وتقاسم مغانمها بين الأولاد والأحفاد والأصهار والشركاء السياسيين.
تجارة وسياسة
هكذا تجري الأمور في لبنان في العقود الماضية، خصوصاً في السنوات العشرة الأخيرة. نموذج الاعمال Business Model يقضي بأن لا حاجة للفصل بين التجارة والسياسة، ولا غضاضة في الدمج بين الاثنتين. لا بل لا أعمال ولا تجارة تقريباً من دون شراكة مع حزب نافذ أو مع أحد السياسيين النافذين. يمكن أن تكون رئيس حزب أو وزيراً أو نائباً حالياً أو سابقاً، أو حتى مرجعاً سياسياً كبيراً، وتتربع في الوقت نفسه فوق شركة أو مصرف أو كسارة أو مقلع أو مرفق يدر ملايين الدولارات، مرخص أو غير مرخص لا يهم، وتتهرب حتى من دفع الضرائب، لا بل تستخدم هذا المرفق لتبييض الأموال أو لتهريب البضائع والأسلحة والذخائر ونترات الأمونيوم.. ولا تنزاح عن الكرسي ولا تخضع لأي مساءلة، حتى لو كنت في خضم كل ذلك شريكاً فاعلاً أو صامتاً في تفجير مرفأ العاصمة وتدمير نصف أحيائها وقتل وجرح وتشريد وتدمير حياة عشرات الآلاف من سكانها.
قلة من السياسيين في تاريخ لبنان شذوا عن هذه القاعدة، يذكر منهم دائما ريمون اده والياس سركيس وسليم الحص ونسيب لحود. الأخير منع شركته المزدهرة عالمياً حينها من العمل في لبنان فور توليه منصباً عاماً سنة 1989.
"نموذج الأعمال" الفاسد السائد بدّد خلال عشر سنوات 100 مليار دولار من الأموال العامة و200 مليار دولار من الودائع المصرفية، هي جنى عمر ملايين اللبنانيين في الوطن والمهجر. فلماذا قد يشذ قطاع الغاز والنفط عن هذه القاعدة؟ وطلائع مظاهرها بادية للعيان لدى أرباب المحاصصة السياسية باسم حقوق المذهب أو الطائفة، منذ اللحظة الأولى التي أشتم فيها هؤلاء رائحة الغاز المنبعثة من شرق البحر الأبيض المتوسط، أي منذ عشر سنوات ونيف.
مصلحة اللبنانيين
شاءت الأقدار ألا يتفق هؤلاء حينها على تقاسم الحصص والبلوكات والمرافق المصاحبة أو ألا يحصلوا على الضوء الأخضر من رعاتهم الإقليميين، فتعثر الترسيم وتأخر التلزيم. حتى التنقيب في البئر التجريبية اليتيمة عام 2018 جاء جافاً. البعض يعتقد، وعن حق، أن هذا كله من حسن حظ لبنان واللبنانيين. الأموال التي كانت ستنتج من استخراج الغاز، لو حصل، كانت لا شك ستنضم الى المئة مليار دولار المبددة والمنهوبة، المذكورة أعلاه.
منظومة الحكم في لبنان لا تؤتمن على المال العام، ولا على الثروات الطبيعية. وقد شهد اللبنانيون كيف هم يتصرفون بالمشاعات والأملاك العامة وقطاعات الكهرباء والاتصالات والنفايات الصلبة والمصارف، وهم انتفضوا ضد ذلك في حركة احتجاج مدنية سلمية رائعة على مدى عام كامل. مصلحة لبنان واللبنانيين أن لا يتم التصرف بموارد لبنان النفطية إلى حين قيام سلطة سياسية نزيهة وشفافة تدرك معنى المصلحة العامة وتعمل في سبيل تحقيقها وترضى الخضوع للمساءلة. تلك هي مصلحة لبنان، حتى لو تم التلويح للبنانيين أن التأخر قد يفقدهم اقتطاع حصة وازنة في أسواق الطاقة العالمية والاقليمية.
إلى حينه، فليبقى الغاز رابضاً في جوف البحر.