في الإعاقةِ ومُصْطَلَحِها: أَيْنَ مَحَلُّ الإصلاح؟

أحمد بيضون
الإثنين   2024/07/01
الخُلاصةُ أنّ اللُؤمَ الاجْتِماعِيِّ، لا اللغةَ ومُعْجَمَها، هُوَ مَصْدَرُ الحَطِّ مِنْ شَأْنِ المُصابِ
من عَهْدٍ باتَ بَعيداً، أبْدَيْتُ شَكّي في قيمةِ ما تَصِحُّ تَسْمِيتُهُ "الحلَّ اللُغَوِيَّ" لمُشْكِلِ الشُحْنةِ الانْتِقاصِيّةِ التي تَنْطَوي عَلَيْها، بِمَشيئةٍ اجْتِماعِيّةٍ لا بِحُكْمٍ لُغَوِيٍّ، ألْفاظٌ تُسَمّي أَمْراضاً أو عاهاتٍ مِن قَبيلِ الشَلَلِ أو الكُساحِ أو العَمى أو الصَمَمِ أو البَكَمِ، إلخ. فراحت جَمْعِيّاتٌ أو مَراجِعُ أخرى توجِبُ الإقلاعَ عن اسْتِعْمالِها والاسْتِعاضةَ عَنْها بأَسْماءٍ  مُبْتَكَرةٍ يُفْتَرَضُ أَنَّها لا تَنْطَوي عَلى حَطٍّ مِنْ قيمةِ المُصاب. 


هذه التَسْمِياتُ المُقْتَرَحةُ لا تُسَمّي الإصابةَ، على الأَغْلَبِ، بل أَثَرَها الأَهَمَّ الذي يَحْصُلُ كَثيراً أنْ يَكونَ مُشْتَرَكاً ما بَيْنَ إصاباتٍ مُخْتَلِفةٍ عِدّة. وهو ما يَجْعَلُ التَسْمِيةَ الجَديدةَ أَقْرَبَ إلى التَعْمِيةِ ويَحْمِلُ السامِعَ عَلى الارْتِدادِ، بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ، إلى الاسْمِ الأَصْلِيِّ المُحْتَمَلِ لِلْإصابةِ لِفَهْمِ المَقْصود. وذاكَ أنّنا هَهُنا حِيالَ أَمْراضٍ وعاهاتٍ تَعْرِفُها البَشَرِيّةُ بِأَسْماءٍ لَها عُمْرُها مِن أعْمارِ اللُغاتِ، على اخْتِلافِها.


هذا، في كُلِّ حالٍ، أي التَوَرُّعُ عن تَسْمِيةِ الإصابةِ باسْمِها الصَريحِ والاسْتِعاضةُ عن هذا الأَخيرِ بِوَصْفٍ مُوحٍ بِمَعْناهُ (بِما يَنْطَوي عَلَيْهِ ذَلِكَ مِن ضَمانٍ غَيْرِ مُرَجَّحٍ البَتّةَ يُفْتَرَضُ جِزافاً لاسْتِجابةِ اللُغةِ المُتَداوَلةِ للتَصَرُّفِ الإرادِيِّ بِمَتْنِها) ليسَ بالموقفِ المُسْتَجَدِّ بِتَمامِهِ، المَحْصورِ بِنا وبِعَصْرِنا. فَنَحْنُ نَجِدُ لَهُ بشائرَ قَديمةً لَعَلَّ أَقْرَبُها تَبادُراً إلى الذهنِ وَصْفَ الأعمى بالضَريرِ أو بالكَفيف. ونحنُ نَقَعُ عَلى ما يُشْبِهُهُ في حُقولٍ دَلاليّةٍ أخرى بَيْنَ أَبْرَزِها حَقْلُ الحياةِ الجِنٍسِيّةِ بِما هو مَعْلومٌ مِن تَوَرُّعٍ مَلْحوظٍ فيهِ عن تَسْمِيةِ الأَعْضاءِ والأَفْعالِ بِأَسْمائها الصَريحة، إلخ.

إلى هذه الأَسْماءِ الراسخةِ، في المضمارِ الجِنْسِيِّ وفي مِضْمارِ الإعاقةِ سَواءً بِسَواءٍ (بل في كُلِّ مِضْمارٍ آخَرَ تَزْدَوِجُ فيهِ التَسْمِياتُ عَنْوةً)، يَغْلِبُ أن تَرُدَّ الألْفاظُ الجَديدةُ المَفْروضةُ فَرْضاً عِوَضَ أنْ تُغْني عَنْها… هذه قاعدةٌ لا يُبْطِلُها الاسْتِثْناءُ، حيثُ يَظْهَرُ، ولا يَنْتَقُصُ مِنْها ما قد يَطْرَأٌ من اعْتِبادٍ لأَسْماءٍ مُقْتَرَحةٍ تُحْسِنُ الدِفاعَ عن لَياقَتِها اللُغَوِيّةِ (لا عن اللياقةِ الاجْتِماعِيّةِ لِمُعْتَمِديها وحَسْب). 
 
والخُلاصةُ أنّ اللُؤمَ الاجْتِماعِيِّ، لا اللغةَ ومُعْجَمَها، هُوَ مَصْدَرُ الحَطِّ مِنْ شَأْنِ المُصابِ الذي تُبْعِدُهُ إصابَتُهُ عَمّا يُفْتَرَضُ أَنّهُ القاعدةُ في كَفاءةٍ مِنَ الكَفاءاتِ المُعْتادةِ للكَثْرةِ مِن البَشَرِ: حِسٌّيّةً كانت هذه الكَفاءةُ أَمْ حَرَكِيّةً، ذِهْنِيّةً كانَت أم جَسَدِيّةً، إلخ. وأَصْلُ هذا اللؤمِ وما يورِثُهُ مِن حُمولةٍ في الأَلْفاظِ هُو المَيْلُ الرَخيصُ إلى تَحْصيلِ المُبْتَلى بِهِ اطْمِئناناً إلى سَلامَتِهِ هُوَ يُكَرِّسُهُ أو يُفْضي إليهِ افْتِراضُهُ نَوْعاً مِن التَفَوُّقِ على المُصاب.

هذا اللُؤمُ يَتَعَيَّنُ التَصَدّي لَهُ في جَذْرِه. وأسْلِحةُ هذا التَصَدّي مَوْفورةٌ تَكادُ لا تَحْتاجُ إلى الإشارةِ: أَقْرَبُها تَناوُلاً أنّ المُصابَ لا يُسْأَلُ عَنْ إصابتِهِ ولا يُعاقَبُ عَلَيْها وأنّ لهُ كرامةً هي المُشْتَرَكةُ بَيْنَ البَشَرِ ولا تَنْتَقِصُ مِنْها الإصابة. وأَمّا آخِرُ هذهِ الأسْلِحةِ لُزوماً فَهو كثْرةُ الحالاتِ التي يَقْلِبُ فيها المُصابُ الحَدَّ الذي تَفْرِضُهُ الإصابةُ إلى أفُقٍ وفُرْصة… وهذا إلى درجةٍ كثيراً ما تَصْلُحُ دَرْساً يُلَقِّنُهُ المُصابونَ لِمَنْ يَسْتَسْهِلونَ اتِّخاذَهُم مَرْكَباً للاطْمِئنانِ البَخْسِ إلى السَلامةِ والشُعورِ الهَزْليِّ بالتَفَوُّق.

عِوَضَ هَذا التَصَدّي الصَعْبِ للّؤمِ المُشارِ إلَيْهِ في أَصْلِهِ، يوهِمُ الدُعاةُ والجَمْعِيّاتُ أَنْفُسَهُم أنّ تَبْديلَ الأَسْماءِ يُبَدِّلُ المَواقف. ويزيدُ وهْمَهُم وَهْماً اقْتِراحُهُم مُصْطَلَحاتٍ زهيدةَ الحَظِّ (لنُشوزِها أو تَقَعُّرِها) مِن فُرَصِ الرَواجِ وبَعيدةً، فوقَ ذلك كلّهِ، عن تَحْصيلِ إجْماعِهِم (أو ما يَقْرُبُ مِنْهُ) عَلى هذا أو ذاكَ مِنْها. وهو ما يَنْتَهي بالسامِعِ أو بالقارئ إلى تَوَسُّلِ ما يَسْمَعُهُ أو يَقْرَأه سَبيلاً إلى اسْمٍ أَصْلِيٍّ تستبقيهِ الذاكرةُ العامّةُ في المُتَناوَل. 

هذا النَوْعُ مِن النِفاقِ الذي لا يَزيدُهُ خوضُ المَعْركةِ في غَيْرِ مَيْدانِها إلّا نِفاقاً، تَتَكَرَّسُ صِفَتُهُ هذِهِ بأَفْضالِ الحُرْمةِ الاسْتِعْمالِيّةِ التي تَزْعُمُ شُرْطةُ الأَخْلاقِ اللغَوِيّةِ لِنَفْسِها، مُنَظَّمةً كانَتْ أَمْ مُرْتَجَلةً، قّدْرةً عَلى فَرْضِها  في وَجْهِ الأَعْرافِ اللُغَوِيّة وما كَرّسَتْهُ مِنْ أَسْماء…
هذه ملاحظاتٌ لا تُريدُ اسْتِبْعادَ مُراجَعاتٍ تَفْرِضُ نَفْسَها لقاموسِ الإصاباتِ وزياداتٍ فيهِ يُمْليها تَحَسُّنُ المَعْرِفةِ بالحالاتِ وما يتْبَعُهُ من تَفْريعٍ وتَفْصيلٍ (بَلْ مِن تَعْديلٍ أيضاً) في التَسْمِيات. فَما نَصْدُرُ عَنْهُ ههُنا ليسَ مَوْقِفاً مُحافِظاً حيالَ المُعْجَمِ يورِثُ تَشَبُّثاً باللَفْظِ السائرِ أَيّاً يَكُن. ذاكَ بَعيدٌ عَمّا نَتَرَسَّمُهُ مِنً خطّةٍ في الموضوعِ المطروقِ هُنا وفي غَيْرِه. وإنّما أرَدْنا الإشارةَ إلى أنّ المُواجهةَ الناجعةَ إنّما تَكونُ لِما في الأَسْماءِ مِنْ حُمولةٍ اجْتِماعِيّةٍ مَرْفوضةٍ ولَيْسَ للأَسْماءِ نَفْسِها وأنّ العَكْسَ إنّما يَشي بنَوْعٍ من اليَأْسِ مِن اللُبابِ يُزَيِّنُ الاشْتِغالَ العَقيمَ بالقِشْرة. 

بَلْتيمور في أواخر حزيران ٢٠٢٤