حرب "القمامة مقابل الأفكار"
في اليوم السابق، كانت كيم يو جونغ، شقيقة الزعيم ونائب مدير اللجنة المركزية لحزب العمال الحاكم، قد أصدرت بياناً شديد اللهجة، اتهمت فيه كوريا الجنوبية بإسقاط منشورات تحريض سياسي، و"أشياء أخرى قذرة"، قرب الحدود أو داخل الشطر الشمالي للجزيرة الكورية. أدانت كيم يو بشدة "الأعمال المشينة والقذرة لجمهورية كوريا الجنوبية"، مهدِّدة الشقيقة الجنوبية بدفع ثمنٍ غالٍ.
كيم يو، الوجه الأنثوي للحكم في كوريا الشمالية، كان يُنظر إليها كوريثة للحكم من أخيها "قبل بروز ابنته كمنافسة لها"، وهو ما لم يكن خبراً ساراً لكونها معروفة بتشددها أكثر من شقيقها الذي يتزعم السلطة حالياً. حسب المعلومات "الشحيحة عموماً" عن كوريا الشمالية، وبخلاف ما هو متوقع من امرأة، فإن صورة كيم يو شبيهة بصورة الرجل الثاني الدموي في السلطات والتنظيمات الحديدية، بحيث يبدو الرجل الأول خياراً رحيماً. أما ما قصدتْه بمنشورات التحريض السياسي فهي منشورات مناصرة للديموقراطية، يطلقها نشطاء من كوريا الجنوبية في بالونات محمّلة أيضاً بسلع استهلاكية غير متوفرة في الشطر الشمالي، السلع التي تسمّيها كيم يو "أشياء قذرة".
الحرب كانت قد استعرت قبل شهور، فبدءاً من ليلة الثلاثاء في الثامن والعشرين من شهر أيار الماضي، وحتى صباح اليوم التالي، كان الجيش الكوري الجنوبي قد رصد وصول 150 بالوناً كورياً شمالياً محمَّلة بالقمامة. وتعبير القمامة، رغم غرابته، هو ملطّف بالمقارنة مع بعض أنواع القمامة المرسلة بالبالونات، تحديداً محارم التواليت المستخدمة، المتسخة بالبراز. صبيحة ليلة بالونات القمامة تلك، نقلت أيضاً وكالة الأنباء المركزية الرسمية عن كيم يو إقرارها بإرسال القمامة، وتحديداً ورق التواليت، قائلة إنها جزء من حرية التعبير، وقارنت كيم بينها وبين قصاصات الورق الداعية إلى الديموقراطية، المرسَلة من نشطاء الشطر الجنوبي.
النشطاء الذين يرسلون بالونات من الجنوب، أو زجاجات عائمة في النهر العابر للحدود، كانوا يخالفون قانوناً أقرّه برلمان الجنوب في عام 2020 يحظر إرسال المنشورات وبثّ الدعايات المضادة عبر مكبرات الصوت، والبعض من هؤلاء منشقّ أصلاً وهارب من الشمال. على سبيل المثال كانت منظمة "مقاتلون من أجل كوريا الشمالية الحرة" قد أعلنت، في شهر أيار نفسه، أنها أرسلت عشرين بالوناً، حمّلتها بثلاثمئة ألف منشور مناهض للحكم، وبألفي وحدة تخزين USB، تتضمن موسيقى بوب وفيديو كليب. ووحدات التخزين وموسيقى البوب ممنوعتان في الشطر الشمالي، وكذلك الدراما التلفزيونية الكورية الجنوبية، فضلاً عن سلع استهلاكية أخرى يرسلها النشطاء، ومنها أدوية لا تتوفر في الشمال.
تطور آخر سجّلته بيونغ يانغ في العشرية الثالثة من شهر تموز، عندما استهدفت المجمع الرئاسي الكوري الجنوبي في العاصمة سيول، وطالته ببالونات من نفاياتها، ما استدعى تدخل الفرق الخاصة بالحرب البيولوجية والكيميائية لإزالة النفايات على نحو آمن! على أثر الهجوم علّقت "سيول" العمل بالقانون الذي يحظر بثّ دعاية مناهضة لبيونغ يانغ، وتبادل الطرفان التحذيرات والتهديدات.
في السادس من شهر أيلول أرسلت بيونغ يانغ قرابة مئتي بالون قمامة أيضاً، ليبلغ العدد منذ أيار حتى ذلك التاريخ حوالى خمسة آلاف بالون، وقيل أن إرسال الدفعة الجديدة كان احتجاجاً على زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى كوريا الجنوبية. إلا أن التطور الأبرز أتى بعد عشرة أيام، إذ أُعلِن عن انعقاد الجمعية الشعبية العليا في كوريا الشمالية في السابع من تشرين الأول. الجمعية بمثابة "مجلس شعب" على الطريقة الاستبدادية المعروفة، والغرض من انعقادها كان معروفاً أيضاً، وهو إقرار تعديل دستوري يصنّف كوريا الجنوبية بوصفها العدو الرئيسي.
بالونات ضخمة من نوع مختلف، أُطلقت في كوريا الشمالية ترحيباً ببوتين الذي وقّع مع نظيره اتفاقية تعاون استراتيجي شاملة في 19 حزيران الماضي، أهم بنودها تلك المتعلقة بالجوانب الأمنية والعسكرية. وكانت وسائل الإعلام الكورية الشمالية قد نشرت رسالة مفتوحة من بوتين، استبقت زيارته بأسبوع، جاء فيها: "نحن نقدر بشدة دعم جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية الذي لا يتزعزع للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا". الاتفاقية صادق عليها مجلس الدوما بالإجماع في الرابع والعشرين من الشهر الفائت، بالتزامن مع ذيوع الخبر الخاص بوصول آلاف الجنود الكوريين لدعم القوات الروسية ضد أوكرانيا، بعدما كان الدعم يقتصر على المعدات.
بالعودة إلى تصريحات زعيم كوريا الشمالية وشقيقته في آخر يومين، من الصعب فصل التصعيد الجديد ضد كوريا الجنوبية عن مجريات الحرب في أوكرانيا، وآخرها ما يُتداول عن سماح إدارة بايدن لأوكرانيا باستخدام صواريخ غربية بعيدة المدى لضرب أهداف في روسيا. فجنود كوريا الشمالية، الذاهبون لدعم روسيا، ربما يكونون في مرمى الصواريخ الغربية، خصوصاً أولئك الذين ذهبوا لمساندة القوات الروسية في جبهة كورسك. لكن الحرص على هؤلاء قد لا يكون الدافع وراء التصريحات، وقد يكون الأقرب إلى الواقع أن تهديد كوريا الجنوبية هو جزء من رد فعل منسَّق مع موسكو، غايته تهديد واشنطن بإشعال حرب جديدة تنذرها بفقدان حليف شديد الأهمية في شرق آسيا.
لا يخفى في التسلسل السابق أن قادة بيونغ يانغ يستقوون بكونهم قوة نووية يُحسب حسابها، فوق حيازتهم قوة صاروخية تدعم الحرب الروسية على أوكرانيا، وسبق لها أن دعمت العديد من الأنظمة على شاكلة إيران والعراق وسوريا. وما بدأنا به عن حرب البالونات لا يعدو كونه الجانب الطريف، بل اللطيف، الذي يمهّد لاستخدام القوة المباشرة الفظة.
بصرف النظر عن جدارتها وأهميتها، ليس من الطرافة وحدَها مقابلة الأفكار بالقمامة، خصوصاً بمحارم التواليت المستخدمة بما تحمله من دلالة فجة. وإذا تجاوزنا ما هو مباشر إلى المجاز، فمن المرجّح أننا في منطقة يزدهر فيها استخدام مختلف أنواع القمامة لمواجهة الأفكار، وربما كان علينا ألا نتذكر هذا، كي لا ينغّص علينا طرافة الفكرة إذ تبدو قصيّة وابنة الفرادة الكورية الشمالية ليس إلا.