نقلة البيادق الدموية

صبا مدور
الأحد   2024/06/23

لا ينقص لبنان أن يجد نفسه في خضم حرب ربما تقضي على آخر فرص له بالنجاة من أزماته الحالية، بل وربما تدخل البلاد في أجواء تقسيم لم تعرفه حتى في ذروة الحرب الأهلية.

مشكلة لبنان ليست حكرا عليه، فالجماعات المسلحة، أو ما يسمى بالقوى خارج الدولة،  تنخر في أجساد العراق وسوريا واليمن أيضا، لكن هذه الدول لديها قدرة اكبر على البقاء بحكم ظروف تاريخية وجغرافية واقتصادية، أما في لبنان فمثلما كان (ضعفه) هو سبب قوته، فإن إدعاء (الدولة) الموازية فيه بقوتها هو سبب مباشر لضعفه، وتحوله إلى ساحة مواجهة وتصفية حسابات إقليمية حولت استثنائيته بين دول الشرق الاوسط إلى نموذج للخراب والخوف.

ومشكلة لبنان الحقيقية تتجاوز ظروفه الاقتصادية الصعبة، فذلك مما كان يجري معالجته بانتظام بقدرات لبنانية متميزة في العلاقات الاقليمية والدولية، وباستثمار مواهب خاصة للبنانيين، وهي ليست ايضا في تركيبته الاجتماعية والسياسية المتعددة، التي أسست لنظام طائفي في الحكم والحياة، فذلك أيضا مما جرت إدارته بمهارة خاصة، وتسويات متقابلة، منذ الاستقلال حتى الحرب الاهلية، ثم جاءت وثيقة الطائف لتعيد التنظيم بطريقة ناجحة وفاعلة، لولا (الدولة الموازية) التي قضت على الطائف، وقامت بتخريب جوهري لأسس التعايش ومهارة إدارة الاختلاف، حتى تشظى الأمر إلى دولة عاجزة، لم نسمع لها صوتا منذ بدأت طبول الحرب تدق على البلاد.

احتكرت (الدولة الموازية) مصادر القوة، وسيطرت باساليب مختلفة على القرار والنفوذ منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وتلاعبت بإعدادات البلاد، وكسرت التوازن الطائفي بعد تجريد السنّة من كل مصادر القوة، بما فيها موقع رئيس الوزراء الذي لم قادرا على اتخاذ قرارات تخص الحرب والسلم، ووقفت أمام انتخاب رئيس مسيحي للجمهورية يخلف الرئيس المتحالف معها، وحتى البرلمان الذي يقوده شيعي من تيار سياسي آخر، فلم يجتمع ليدرس أحوال البلاد في ظل التهديد بنشوب حرب، أو في أزمة خلو المناصب التنفيذية مع رئيس غائب، ورئيس وزراء لتسيير الأعمال بلا صلاحيات حقيقية.

ما الذي نتوقعه في بلاد، على شفا الحرب، وقد جرى تهميش أو تغييب سلطاتها الثلاث، وكيف ستعالج المؤسسات أضرار الحرب لو قامت، وبشكل أدق هل ستكون هناك مؤسسات عاملة، أم أن اللبنانيين سيعود كل منهم إلى طائفته وعائلته ليحتمي فيها وبها، كما هو حال الدول الفاشلة؟ ولو حصل ذلك، وهو للأسف سيناريو محتمل، فهل سيكون للدولة بعد مرور العاصفة، أن ترفع عينها في عيون شعبها، وأن تطلب منهم الخضوع؟

لسوء الحظ، فإن تجارب سابقة برهنت على أن فشل الدولة في حماية مواطنيها، يمكن أن يتسبب في بروز فكرة التقسيم، وهي بالنسبة للبنان بشكل خاص فكرة جاهزة وممكنة حتى جغرافيا، وهو أمر قد يحدث في سوريا، المقسمة حاليا بحكم الأمر الواقع، بوصفها دولة فاشلة في ظل نظام الأسد، ويمكن ان تنقسم أيضا في حال سقوطه، على عكس العراق مثلا الذي كان يمكن أن ينقسم ولو فيدراليا، لولا التداخل الجغرافي لسكانه، وفكرة الدولة المركزية التي سيطرت عليه لعقود. 

بالطبع ما زالت هناك فرصة حتى ساعة الصفر، لمعالجة الأمر وإنقاذ لبنان من حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، لكن هل سيحصل ذلك مع التعقيدات الشديدة التي بلغها الوضع في الشرق الأوسط، والأجندات الاجنبية التي تتحكم في قرارات ومواقف (الدولة الموازية)؟

الحروب من أجل التحرر أمر لا يمكن الوقوف ضده، لكن بشرط أن تكون أجندتها الوطن لا سواه، وأن لا تدمر الداخل من أجل الخارج، فهي هنا ليست حرب تحرر، بل نقلة في بيدق الشطرنج الشرق أوسطي، دونه دماء ودموع وخراب ستطول آثاره، كما حصل في سوريا من قبل.