"إنه يبدو مسلمًا"!

سلام الكواكبي
الإثنين   2024/10/28
تظاهرة تضامن مع غزة في باريس (Getty)

في إطلالة له على قناة تلفزيونية عامة، استهجن كريم بو عمران، رئيس بلدية إحدى الضواحي المهمة في منطقة باريس وما حولها، ما أسماه باستيراد صراعات الشرق الأوسط إلى الضواحي الفرنسية التي تقطنها نسبة عالية من أصحاب الأصول المهاجرة، وخصوصاً من العالمين العربي والإسلامي. وبهذا الكلام، فقد نأى عضو الحزب الاشتراكي البارز، والذي تناقلت الأخبار اسمه كمرشح محتمل لرئاسة الوزراء في فرنسا غداة فوز اليسار بصدارة نتائج الانتخابات التشريعية في شهر تموز الماضي، عن اتخاذ أي موقف مرتبط بما يحصل في فلسطين، ولا أن يحاول الالتفاف بخجل على السؤال مشيراً مثلاً إلى ضرورة تأمين وقف إطلاق النار وتأمين حالة من السلام لجميع سكان المنطقة (...).

رئيس البلدية "الاشتراكي" هذا، ومن ذوي الأصول المغاربية، هو من واجهة الاشتراكيين غير المقرّبين من حزب فرنسا الأبية المسيطر عددياً وتنظيمياً على تحالف اليسار تحت مسمى الجبهة الشعبية الجديدة. وهو التحالف المستمر حتى إشعار آخر والذي، أي هذا الإشعار، يمكن أن ينجم عن نبأ انفكاكه وزواله حفلاً صخباً لجميع المتربصين به من يمين ويمين متطرف وجزء من يسار التردد وانعدام الهوية وتراجع العقيدة وزيف الممارسة ممثلاً بتقليديي الحزب الاشتراكي. وقد أضاف بو عمران مسترسلاً بأن استيراد الصراع، ويقصد تحديداً من قبل حليفه/ خصمه اللدود، حزب فرنسا الأبية، والتركيز على التضامن مع الشعب الفلسطيني المتعرض إلى حملة إبادة جماعية، ليس من أهدافه إلا كسب أصوات الفرنسيين من أصول عربية ومسلمة. فهذا برأيه استقطاب سياسوي مزعج ينمُّ عن استثمار في مآسي الآخرين. إذاً، فتأييد الفضية الفلسطينية العادلة من قبل اليسار المتشدد، ممثلاً بزعيمه الشعبوي جان لوك ميلانشون، لا يهدف إلا لحصد أصوات انتخابية.

ينتشر يميناً كثيرٌ من هذا الكلام غير المسنود إلى وقائع وإلى تحليل جدي. ولكن أن يدلو به أحد أبرز أسماء اليسار التقليدي الصاعدة، فيبدو على أنه ما هو إلا انعكاس لرغبة بو عمران بالحصول على قبولٍ أكثر ورضى أكبر في مفاصل الحزب الاشتراكي، الذي تميّز تاريخه القريب، كما البعيد نسبياً، بصراعات واضحة بين تيارين بارزين فيه: تيار السلطة وتيار العقيدة. ولقد تناولت تغريدة قصيرة هذا الموقف بالنقد مما أدى بصاحبها، وهو عالم الاجتماع والسياسة باسكال بونيفاس، الاشتراكي السابق، إلى أن يجد نفسه، وليست هي المرة الأولى، في قفص الاتهامات شديدة اللهجة والتهديدات والشتائم التي وصمته بالعنصرية لأنه تعرّض لفرنسي من أصول مهاجرة بالنقد. وكان بونيفاس، الذي يترأس معهداً جدياً للعلاقات الدولية، قد سبق وذاق مرارة الهجمات الإعلامية المتعلّقة بموقفه الواضح والصريح من عدالة القضية الفلسطينية. فقبل أن يكون عنصرياً كان أيضاً، وبالعرف الإعلامي الفرنسي المهيمن، معادياً للسامية. وفي معرض انتقاد النأي بالنفس هذا، كتب بونيفاس بأن رئيس البلدية هذا، والذي يبدو مسلماً، أخطأ باتهام من يهتم بمصير شعب يُباد على الهواء مباشرة أمام عيون العالم الثكلى نوماً أو بكاءً، في ظل صمتٍ شريكٍ مخجل. والفاحشة "العنصرية" التي اقترفها بونيفاس تتعلّق بعبارة "يبدو مسلماً" أو أنه، كما فسّر المجتهدون في اختلاق القضايا الشائكة، "مسلماً بالمظهر" لأنه لا يأخذ موقفاً واضحاً من قتل مسلمين فلسطينيين.

"أتساءل بصدق عن هذا الرجل الذي لا أعرفه شخصيًا. هل هو مثال على الجدارة؟ إذن برافو! أم أنه يُستخدم كأداة في صورة مسلم لا ينتقد نتنياهو، ولذا يحظى بتغطية إعلامية كبيرة؟". هذا بالتحديد ما كتبه بونيفاس قبل أن يزيله من صفحته إثر الإعصار الذي جوبه به من قبل متربصين عدة ينتمون إلى اليمين والى اليسار، والذين يجمعهم على اختلافاتهم السياسية، إعجاب أو خضوع لسياسات إسرائيل لأسباب عقائدية او شخصية مرتبطة بالمكانة وبالنفوذ وبالثروة. ولقد وجد أمين عام الحزب الاشتراكي نفسه مضطراً للخوض في جوقة المنددين بهذه التغريدة. وقد تطوّر الهجوم بانضمام فئة الفرنسيين الصهاينة من جميع المشارب والتي تصدح بالإدانات فور ما يتبين لها بأن سياسات إسرائيل الدموية هي عرضة للانتقاد. وقد سبق له أن استقال من الحزب الاشتراكي سنة 2003 بعد ان كان مفوض العلاقات الدولية وقدّم مذكّرة ينتقد فيها شدة محاباة الساسة الفرنسيين للسياسات الإسرائيلية التوسعية والاستيطانية، مهما ارتكبن من قبل يمين صهيوني أو يسار. ومنذ ذاك الوقت، صار بونيفاس عرضة لاتهامات متكررة بمعاداة السامية. واليوم أُضيف له اتهام بالعنصرية ومعاداة المسلمين لأنه تساءل عن أسباب صمت كريم بو عمران ونظرائه أمام هول الفاجعة الفلسطينية.

ليس سراً الاعتراف بأن إبراز شخوص ذوي أصول عربية أو مسلمة في مقدمة جحافل المدافعين عن إسرائيل أو الصامتين عن مجازرها هو عمل متقصّد، ولكنه صار من المقلق أن يُشار إليه خوفًا من العواقب. وقد سبق لباسكال بونيفاس أن نشر قبل نيّف وعشر سنوات كتاباً نال عليه من الشتائم ما صغر وما كبر عنوانه "هل من الممكن نقد إسرائيل؟". كما وضع جردة حساب متميزة وممتعة لهرطقة من يُحسبون على أنهم قادة الرأي من فلاسفة التوك شو، وأسماه "المثقفون المزوّرون".