منهجية جديدة في تسعير الذهب بسوريا.. ماذا تعني؟

إياد الجعفري
الأحد   2024/10/27
تعديل منهجية تحديد تسعيرة الذهب الرسمية، لتصبح مُربحة (Getty)
قد يكون من المبكر الجزم بذلك. لكن يمكن ملاحظة تغيّر جزئي في عقلية إدارة المشهد الاقتصادي السوري من جانب حكومة النظام الجديدة، وذلك بالاستناد إلى مؤشر تسعير الذهب، الذي تغيّرت منهجيته منذ نحو شهر، بعد عقدٍ من الاستقرار على منهجية سابقة تسببت في جعل سوق الذهب ينسل في معظمه داخل عتمة "اقتصاد الظل".

ومنذ بداية الشهر الجاري، تعتمد الجمعية الحرفية للصياغة وصنع المجوهرات بدمشق وريفها -المعروفة اختصاراً بـ"جمعية الصاغة"- تقديراً لـ"دولار الذهب" أعلى من سعر السوق السوداء، بهامش يتراوح ما بين 300 إلى 400 ليرة للدولار الواحد. مما يوفّر هامش ربحية أكبر لبائعي الذهب، ويُبطل مبرراتهم للالتفاف على التسعيرة الرسمية، والتهرب الضريبي.

ومنذ نحو عقدٍ من الزمن، كانت جمعية الصاغة تخضع لتوجيهات النظام باعتماد تقدير لـ"دولار الذهب"، أقل بكثير مقارنة بسعر السوق السوداء، في محاولة للجم انهيار سعر صرف الليرة السورية. مما جعل تسعيرة الذهب الرسمية غير واقعية، والالتزام بها يعني خسارة محققة لباعة الذهب. ونتيجةً لذلك، ما عاد أحد من باعة الذهب يلتزم بهذه التسعيرة، وأصبحت أسعار المبيع خاضعة لمزاجية البائع وتقديراته المستندة إلى التغيرات الساعيّة في سعر الذهب العالمي وسعر صرف الدولار في السوق السوداء. وساهمت سلطات النظام في ترسيخ هذه المعادلة، عبر الإصرار على إصدار تسعيرة غير واقعية للذهب، في الوقت نفسه الذي كانت تغض الطرف فيه عن البيع بأسعار أعلى بكثير من التسعيرة الرسمية، ما جعل جانباً أكبر من مبيعات سوق الذهب خارج "رادار" السلطات المعنية. وهذا عزّز التهرب الضريبي، وفاقم مدخلات الفساد، باعتبار الرشوة الحل الأمثل لأجهزة الرقابة ذات الصلة.

هذا الواقع بدأ يتغيّر بصورة كميّة، لا نوعية، في السنوات الثلاث الأخيرة، عبر تقليص الفارق بين تقدير جمعية الصاغة لـ"دولار الذهب"، وبين سعر الدولار في السوق السوداء. لكن بقيت المعادلة ذاتها قائمة. وفي حالات قليلة جداً، تجاوز "دولار الذهب" الرسمي نظيره في السوق السوداء. لكن ذلك كان يحدث لأيام معدودة، قبل أن تعود المعادلة ذاتها للانتظام، وكأن الجميع راضون عنها. الصاغة وممثلوهم، الحكومة وأجهزتها الرقابية المستفيدة من قنوات الفساد المتاحة. بالتزامن مع ذلك، بدأ نهج جديد على صعيد الجباية الضريبية من جانب النظام، يتصاعد. متمثّلاً بالمكتب الاقتصادي بقيادة أسماء الأسد، عقيلة رأس النظام. نهجٌ عبّر عن خواء غير مسبوق في خزينة الدولة، دفع النظام إلى اعتماد سياسة جبائية عشوائية قوامها "البلطجة". إذ يُفرض على كل مستثمر -في أي قطاع كان- مبلغاً مالياً مقطوعاً، عليه دفعه لصالح المكتب الاقتصادي التابع للقصر. وإلا، فقد يخضع لعقوبات قاسية قد تصل إلى حد الاستيلاء على كامل أمواله المنقولة وغير المنقولة، عبر قرارات الحجز الاحتياطي. وقد أُخضع لهذا النهج معظم الناشطين الاقتصاديين في البلاد، بما فيهم، رجال أعمال عُرفوا لسنوات، بأنهم مقرّبون من النظام. هذا النهج العشوائي في الجباية الضريبية، المرفق بفرض تسعيرات رسمية للسلع أقل من التكاليف الفعلية، مع غض الطرف عن انفلات الأسعار على أرض الواقع، تسبب في نتيجتين. الأولى، انزياح جانب أكبر من النشاط إلى عتمة "اقتصاد الظل"، حيث أصبح نحو ثلثي الاقتصاد السوري، بعيداً عن التغطية الضريبية. فيما النتجية الثانية، أن رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ممن لم يستطع التكيّف مع هذا الواقع، خرج من الاقتصاد، إما بالإفلاس أو بالهجرة. وكانت الحصيلة خسارة جانب كبير من القطاع الخاص المحرّك للنشاط الاقتصادي في البلاد.

ومع تكليف الحكومة الجديدة، قبل شهر، صدر عن مسؤوليها عدة تصريحات، تدلل على إدراك خطر الواقع القائم. وحينما قُدِّم مشروع الموازنة الجديدة، أشار وزير المالية بأنها لا تتضمن أية إضافات جديدة في الضرائب. فيما أشار رئيس مجلس الوزراء إلى القطاع الخاص بوصفه "شريكاً وطنياً". وهو التصريح الذي تكرر في البيان الحكومي أمام مجلس الشعب، قبل أسبوع.

هذه المصالحة المُعلنة مع القطاع الخاص، وجدت أولى تعبيراتها في تعديل منهجية تحديد تسعيرة الذهب الرسمية، لتصبح مُربحة بصورة عادلة للغاية، بالنسبة لبائع الذهب. أي لا مبرر بعد اليوم، لعدم الالتزام بالتسعيرة، أو التهرّب الضريبي. ففرض تسعيرة تتناسب مع التكاليف الحقيقية، هي الخطوة الأولى نحو خلق هامش مقبول من الثقة بين السلطات المعنية وبين المُكلَّف الضريبي. وهي إحدى الأسس اللازمة لدفع الناشطين الاقتصاديين للعمل في "النور"، بدل اضطرارهم للعمل وفق قواعد "اقتصاد الظل".

لكن يبقى هناك الكثير من العمل المُنتَظَر، كي تعطي هذه المنهجية الجديدة النفع المطلوب. إذ يجب بدايةً، أن تشمل باقي القطاعات الخدمية والإنتاجية. كما أن هناك مشكلات تقييد السيولة والسحب من البنوك، وتقييد الاستيراد بصورة مبالغ بها. في المقابل، هناك محاذير يجب الوقوف عندها. إذ لا بد من الترحيب بعملية دعم نشاط القطاع الخاص كي ينمو ويصبح أكثر حيوية لصالح الجميع، لكن لا يجب أن تذهب هذه العملية إلى أقصى مدى في الاتجاه المعاكس، فتصبح على حساب المستهلك النهائي، وعلى حساب الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.