تركيا.. خيارات سلمية في زمن الحرب

صبا مدور
الأحد   2024/10/27
يحظى حزب العمال بمستقر شبه آمن في سنجار بشمال العراق (Getty)

لا تشبه الغارات التركية ليل الأربعاء وفجر الخميس على مواقع حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا، تلك الإشارات التصالحية المباشرة التي كانت صدرت من أطراف مختلفة داخل تركيا لإنهاء الخلاف الطويل والدامي مع الأكراد.

لا يمكن بالطبع المسارعة إلى اعتبار الغارات، نكوصاً عما بدا وكأنه رؤية جديدة من أنقرة لحسم الملف الكردي بطريقة سلمية، لكن رد الفعل التركي على العملية الإرهابية في أنقرة صباح الأربعاء الماضي، كان مؤشراً على صعوبة المهمة وتعقيداتها، في سياق إقليمي متوتر ومضطرب بشدة.

كانت مشكلة تركيا القديمة مع الحركة الانفصالية الكردية، قد زادت تعقيداً، بعدما هيأت الحرب في سوريا، لحزب العمال وبقية الانفصاليين، أن يتجمعوا في شمال شرقي سوريا، ويؤسسوا هناك كياناً بدعم أميركي يهدد تركيا وأمنها، كما يهدد مصالح الشعب السوري، لا سيما بعدما انساقت أجنحة داخل هؤلاء إلى التعاون مع إيران، ليكون لهم ذلك الولاء المزدوج تجاه طرفين يريدان استخدام ورقة الانفصاليين للضغط على أنقرة.

وتنبهت تركيا بلا شك إلى التداعيات الكبيرة لاستقواء الانفصاليين في سوريا بالدعم الأميركي، وبالتعاون مع إيران، لا سيما في العراق المجاور. وسعت لمواجهة المخاطر بشكل مضطرد ومنتظم، باستخدام الذراع العسكري المتواصل في شمالي العراق، والمؤجل في سوريا، حتى ظهرت بوادر امتداد الحرب الإسرائيلية على غزة، ثم على لبنان، لتشمل سوريا، وربما مناطق أخرى في المنطقة مثل العراق وحتى إيران.

وتدرك تركيا أن اجتياحاً إسرائيلياً للأراضي السورية، حتى لو كان لأغراض الالتفاف نحو مركز قوة حزب الله في البقاع اللبناني، فإنه قد يؤدي إلى دفع الميليشيات الإيرانية ومنها عناصر الحزب المنتشرة في سوريا، لا سيما في دير الزور وداخل حلب وحولها، للقيام بمحاولة ضرب أجنحة القوات الإسرائيلية، بعد أن تترك مواقعها الحالية. وهو ما قد يغري ميليشيات قسد والعمال للتوسع غرباً نحو حلب، وجنوباً نحو دير الزور، وربما استغلال فرصة الارتباك الإقليمي للسيطرة على مناطق تماس مباشرة على الحدود مع تركيا، وبناء جسور تواصل جغرافي مع البيئة الكردية في الأناضول، تمنح الانفصاليين من العمال الكردستاني فرص التسلل إلى الأراضي التركية، واستئناف العمليات الإرهابية واسعة النطاق، ضد قوات الجيش والمدنيين على حد سواء.

سعت الحكومة التركية إلى تدارك مثل هذه المخاطر عبر مبادرة سلمية طرحها الأسبوع الماضي زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، وحليف حكومة العدالة والتنمية، بدعوته الزعيم الانفصالي ومؤسس حزب العمال عبد الله أوجلان المسجون في تركيا منذ ربع قرن، إلى إلقاء خطاب أمام البرلمان يدعو فيه حزبه على نبذ العنف. وهي دعوة كانت استثنائية بالنظر على تاريخ بهتشلي المتعصب بقوة ضد القوميين الأكراد، وقد حظيت على الفور بدعم قوى المعارضة، فضلاً عن الحكومة بطبيعة الحال.

سيكون من الصعب اعتبار العملية الإرهابية التي استهدفت شركة صناعات الطيران والفضاء التركية (توساش) في العاصمة أنقرة، رداً على هذه الدعوة ومحاولة لإجهاضها، حيث تحتاج مثل هذه العمليات لوقت مناسب من التخطيط والاستعداد، لا يتناسب مع توقيتها بعد دعوة بهتشلي بيوم واحد فقط. لكنها قد تكون محاولة لإجهاض هذه الرؤية ذاتها، بعدما كانت صدرت من قبل إشارات عامة حولها، وربما جرت محادثات حولها من خلف الكواليس، أرادت إجهاضها أجنحة انفصالية مستفيدة من حالة الحرب، أو مدفوعة من قبل قوى خارجية تدعم الانفصاليين، وتستخدمهم ورقة للضغط على تركيا في ملفات إقليمية متعددة، أهمها سوريا والعراق.

وترفض هذه الأجنحة الانفصالية كل مبادرة سلمية من جانب أنقرة، لأنها مستفيدة من حالة الحرب، وربما ترى في الحالة الإقليمية الراهنة فرصة كبيرة لتحويل الأحلام الانفصالية إلى أمر واقع حقيقي، يبدأ في سوريا، لكنه لا يلبث ان ينتقل إلى تركيا وكتلتها السكانية الكردية الضخمة في الأناضول. لكن مثل هذا الأمل لن يجد من يدعمه حتى داخل الانفصاليين ذاتهم، من دون الدعم الإيراني، الذي تجاوز حتى الدعم الأميركي في أهدافه ومراميه. فالأخير، يريد من الأكراد أن يحموا المصالح الأميركية في سوريا، وأن يكونوا بمثابة "جنود على الأرض" في حال احتاجت لهم واشنطن. ولا يهمها في ذلك أن يكونوا عنصر تهديد لتركيا أو دول المنطقة الأخرى. أما إيران، فهي تستخدمهم لسبب مباشر، هو الضغط على تركيا ومساومتها على مواقف ومصالح في سوريا بشكل خاص. ولذلك يحظى حزب العمال بمستقر شبه آمن في سنجار بشمال العراق برعاية الميليشيات التابعة لإيران. ومن هناك يخطط لعملياته ضد تركيا، رغم الرفض المعلن لوجوده من جانب الحكومة العراقية.

وفي كل الأحوال، فإن المبادرات التركية تبدو واعدة وجريئة، لكن تسارع الأحداث، وربما انفلاتها، قد يجعل من الخطوات السلمية خارج السياق، ويجبر جميع دول المنطقة، ومنها بالطبع تركيا، على استخدام "كل الوسائل" للحفاظ على أمنها ومصالحها في منطقة أصبحت شديدة السيولة والتحول.