أردوغان على متن طائرته متذكّراً الأسد

عمر قدور
الأربعاء   2024/10/16
يخشى أردوغان من تفاهمات بين إسرائيل والأسد (Getty)

 كأنما صارت تصريحات أردوغان المتودِّدة أو المحابية للأسد من لوازم زياراته الخارجية؛ صارت تحديداً الجزء الأبرز من تصريحاته على متن طائرته، وهو عائد إلى بلاده، حيث يتحدث إلى الصحافيين المرافقين له ليقول ما لم يقله أثناء زيارته الرسمية لهذا البلد أو ذاك. لقد فعلها مجدَّداً قبل ثلاثة أيام، وهو في طريق عودته من زيارة لصربيا وألبانيا، فحذّر من اجتياح إسرائيلي لسوريا. وفي السياق، بدا كمنْ ينتقد حليفي بشار في موسكو وطهران لأنهما لا يسعفانه كما يجب بالتصدي للاعتداءات الإسرائيلية!
هذه المرة قال أردوغان أن على روسيا وسوريا وإيران اتخاذ إجراءات فعّالة لحماية سلامة الأراضي السورية، مشيراً إلى الضربات التي نفذتها إسرائيل مؤخراً، ومنها استهداف مواقع في دمشق نفسها. ومن الواضح أن أقواله تغمز من قناة موسكو وطهران، اللتين لا تبذلان جهداً للتصدي للغارات الإسرائيلية، ولا يوجد بينهما تنسيق في هذا الخصوص. بل إن موسكو لطالما اتُّهمت بالتنسيق مع تل أبيب تجنباً لأي احتكاك بين الطرفين عندما تنفّذ الأخيرة غاراتها على مواقع إيرانية منتشرة في سوريا.

أما التهويل من خطر اجتياح إسرائيلي لسوريا فهو يستند إلى أقوال غير رسمية لوزير إسرائيلي، سبق له أن طالب باستخدام السلاح النووي في الحرب على غزة، ولا توجد إطلاقاً مؤشرات على أطماع إسرائيلية في سوريا. بل يمكن الجزم بأن فكرة دخول الجيش الإسرائيلي إلى عمق الأراضي السورية، وصولاً إلى الحدود التركية، مجافية تماماً للمنطق. وعلى ذلك، لا يكون من مؤدّى مباشر لقول أردوغان أن القوات الإسرائيلية "ستواجه مقاومة عادلة ونبيلة من الرجال الشجعان الذين يدافعون عن وطنهم، في كل بقعة جغرافية تمتد إليها أيديها الملطخة بالدماء". والمغزى الوحيد فيه هو التلميح إلى تقارب ممكن بين الأسد وفصائل المعارضة، على قاعدة القتال ضد إسرائيل.

ومما يدحض تهويل أردوغان من الخطر الإسرائيلي أن قادة تل أبيب لا يستشعرون من الأراضي السورية ذلك الخطر المباشر، ويريدون فقط تحييدها بوصفها ممراً لعبور الأسلحة إلى حزب الله. وهو ما لا يتطلب احتلال سوريا، فوق أن التحييد متضمن أصلاً في مطلب تجريد الحزب من أسلحته الثقيلة ومنع إعادة تسليحه. وفيما يخص الأسد، بمعزل عن طهران، لم تعلن تل أبيب في أي وقت أنه عدو لها، ولم تستهدف قواته يوماً، ولم تستهدف الميليشيات الإيرانية وهي تنشط من أجل إبقائه في السلطة.

بالطبع، يعلم أردوغان جيداً أن أقصى ما تريده إسرائيل في سوريا هو إنهاء النفوذ الإيراني فيها، وهو هدف يُرضي بشار الأسد الذي نأى بنفسه عن التورط فيما يُغضب إسرائيل. وكما هو معلوم هناك الكثير من الأقاويل عن أنه تبلّغ، عبر عواصم عربية، رسائل إسرائيلية تحذّره من عواقب التورط في الحرب الحالية، يُضاف إليها ما هو رائج عن توسط تلك العواصم لإنجاز تفاهمات بينه وبين إسرائيل تتضمن العمل على إنهاء النفوذ الإيراني.

ومن المرجَّح أن السيناريو الأخير هو ما يخشى منه أردوغان، لا سيناريو الاجتياح الإسرائيلي الذي خوّفَ منه في التصريح الأخير، وفي تصريح سابق قبل أيام عندما قال أن إسرائيل بقصفها الضاحية الجنوبية لبيروت باتت على مسافة ساعتين ونصف الساعة فقط من هاتاي (لواء اسكندرون)، وأنها تخطط للعدوان على تركيا! فسيناريو الاتفاق بين تل أبيب والأسد يساعد الأخير على إعادة تدوير سلطته، من دون حاجة ماسّة للاتفاق مع أنقرة، بل ربما يتضمن السماحَ له باستهداف مناطق النفوذ التركي في الشمال، والانقضاض على التفاهمات الثلاثية التي كانت طهران جزءاً منها إلى جانب موسكو وأنقرة، ومن نافل القول أن التفاهمات لن تبقى سارية إذا اضطر أي طرف من أطرافها إلى الانسحاب من سوريا.

لا يريد أردوغان نفوذاً إسرائيلياً على حدوده؛ هذا أقرب إلى التصديق من فرضية وصول القوات الإسرائيلية إلى هناك. وهو لا ينسى بالطبع التذكير بوجود القوات الأميركية التي بحسب قوله "ترعى تنظيم وحدات حماية الشعب الكردية الإرهابية، التي هي امتداد لمنظمة حزب العمال الكردستاني"، وذلك من أجل التخويف من تضافر النفوذين الأميركي والإسرائيلي بما يخدم تطلعات "انفصالية" كردية. أيضاً، هذا الربط بين إسرائيل والأكراد دعائي في المقام الأول، والكلام المتكرر عن انفصال الأكراد لا يدعمه رفض واشنطن من قبل استقلالَ إقليم كردستان العراق، أو رفضها في سوريا مجرد أن تجري الإدارة الذاتية الكردية انتخابات محلية.

إجمالاً يتخذ أردوغان موقف الانحياز إلى إيران ضمن الصراع الحالي، أي بين إيران وإسرائيل، وبلاده معنية حقاً بالصراع من حيث أنها القوة الكبرى الثالثة في الإقليم إلى جوار القوتين المتصارعتين، أي أن نتائج الصراع الحالي تتجاوز ميدانه إلى خريطة النفوذ الأوسع في المنطقة. وانحياز أردوغان ينصرف إلى عدم رغبته في انتصار إسرائيلي مؤثر على خريطة النفوذ الحالية، أما الصراع نفسه "واستمراره" فهما يصبّان في مصلحة تركيا بقدر ما يستنزفان قوى المتصارعَيْن. والمُلاحَظ، رغم موقع أنقرة المناسب للتوسط بينهما، أنها لم تبادر إلى الوساطة الآن أو فيما سبق، بخلاف حماستها للوساطة في أوكرانيا مثلاً.

في سوريا تحديداً، لا شكّ في أن وجود إيران أسهل على أنقرة من النفوذ الإسرائيلي، فالأول لا يحظى برضا غربي مستدام، وحتى إذا أتى بتواطؤ أميركي، فالتواطؤ لن يرقى إلى علاقة التحالف الاستراتيجي الذي يربط واشنطن بتل أبيب. هنا لن تكون إسرائيل بديلاً عن إيران في تفاهمات علنية، وستكتفي بالتفاهم مع واشنطن التي لطالما تسامحت أيضاً مع تجاوزات "الإبن المدلل".

بسبب سخونة وتسارع مجريات الحرب، لم تنل تصريحات أردوغان اهتمام السوريين، خصوصاً اهتمام سوريي المعارضة، الذين تخوّفوا في مناسبات سابقة مشابهة من سلوك أردوغان وهو يُظهر تلهّفاً للقاء الأسد. لكنّ الصدمة هذه المرة ليست أخفّ من سابقاتها، بل قد تكون أثقل، لأن تصريحاته مؤيّدة بوضوح لبقاء إيران في سوريا، وهذا ما ترفضه المعارضة ومصدر تململ لبعض الموالاة. ومع أن سيناريو الاحتلال الإسرائيلي لسوريا مستبعد تماماً فإن السيناريو المضاد الذي يتمناه أردوغان ربما بات مستبعداً بدوره، أي سيناريو العودة إلى ما قبل الحرب على حزب الله. في الواقع ثمة العديد من الاحتمالات التي قد تخلخل التوازنات، ولو لم تُحدِث تغيرات انقلابية، وهي تستحق التفكير بسبب أثرها المتوقع على الهدنة المفروضة في سوريا منذ سنوات.