المتوسط مقبرة أوروبا
رواية خفر السواحل اليوناني، عن تسلسل الأحداث، يتبين تناقضها. فسجلات الحركة البحرية تشير إلى أن مركب الصيد المحمل بالمئات، كانت متوقفة لساعات، على النقيض من الرواية الرسمية اليونانية التي تدعي أن المركب كان يتقدم بثبات ومن دون مشاكل في اتجاه السواحل الإيطالية، قبل أن يغرق فجأة، وأن محاولة للمساعدة من قبل حرس السواحل قوبلت بالرفض من الركاب. شهادات الناجين، وتقارير منظمات الإنقاذ الأهلية وعدد من السفن التجارية التي قدمت المساعدة بالفعل للركاب، تشير بقوة إلى تقاعس الجهات اليونانية عن التدخل، وثمة ما يوحي بأن الأمر متعمّد.
حوّلت أوروبا، المتوسط، إلى أكبر مقابرها، فعدد الضحايا من المهاجرين غير النظاميين منذ العام 2014 تجاوز 26 ألفاً، غرق معظمهم في مسار الهجرة الأوسط الذي ينطلق من ليبيا إلى السواحل الجنوبية لأوروبا، وهو خط الهجرة غير النظامية الأخطر في العالم. سريعاً، قدمت السلطات اليونانية كبش فداء، حين عرضت تسعة ناجين، جميعهم من المصريين، أمام المحكمة بتهم تتعلق بالهجرة غير النظامية وتعريض حياة الركاب للخطر. يتم إلقاء اللوم على شبكات التهريب، وتصوير نشاطها بوصفه إجرامياً. أما المهاجرون أنفسهم فتُنزع عنهم صفة اللجوء، ويوصمون بـ"اللاشرعية" تارة، أو يُصنّفون في خانة اللجوء الاقتصادي تارة أخرى، باتهام ضمني بالتهور المدفوع بالجشع. هكذا تتم زحزحة اللوم ليستقر على أكتاف الضحايا.
الأرقام تشير إلى انخفاض أعداد المهاجرين عبر البحر المتوسط مؤخراً، إلى متوسط سنوي في حدود 120 ألف مهاجر، وهو عدد "قابل للإدارة"، بحسب مسؤولي المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، خصوصاً أن أوروبا استقبلت أكثر من سبعة ملايين لاجئ أوكراني في أقل من عام واحد، وبلا أي مشاكل.
تحتاج القارة العجوز، أيدي عاملة رخيصة بشكل دائم، ويستوعب سوق العمل الوافدين الجدد عبر البحر. وتشير الدراسات الاقتصادية بشكل قاطع إلى أن المهاجرين غير النظاميين، ومعظمهم من الشباب، يضيفون إلى قوى العمل وإلى المؤشرات الاقتصادية، كما يساهمون في سد الفجوة الديموغرافية في مجتمعات تشيخ بشكل متواتر. لا غنى لأوروبا عن الهجرة، ومع هذا ترفض دول الاتحاد الأوروبي تنظيم وقوننة دخول العمالة الرخيصة من جنوب المتوسط، مع إنها تدخل بأي حال ويتم استيعابها في سوق العمل. وبدلاً من هذا، يوضع المهاجرون في خانة الخطر، في حلبة الجدالات السياسية اليومية، جنباً إلى جنب مع مصطلحات الغزو والإرهاب واستعارات الحديقة الأوروبية المسوّرة في مواجهة الغابة.
ثمة أدلة متزايدة على قيام حرس السواحل في إيطاليا واليونان وكرواتيا ومالطا، بدفع سفن المهاجرين بعيداً من المياه الإقليمية لبلادهم. ومؤخراً، توسعت الحكومة الإيطالية اليمينية في تجريم الجهود الأهلية لعمليات الإنقاذ والمساعدة في عرض البحر. الدعوات المتكررة من دول المتوسط الأوروبية بتقاسم أعباء الهجرة مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، قوبلت كثيراً بالرفض وبالأخص من دول وسط أوروبا وشرقها. أما بريطانيا، التي غادرت الاتحاد قبل بضع سنوات، فتتبع سياسات شديدة القسوة لدفع المهاجرين بعيداً من القنال الإنكليزي، من بينها ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، وإسكانهم في معسكرات للجيش وفي قمرات سفن حربية في عرض البحر، إلى حين البت بملفاتهم.
تتعاون دول الاتحاد الأوروبي مع حكومات قمعية في جنوب المتوسط، بغرض "ضبط" الهجرة، ويتضمن هذا التعاون تسليحاً وتدريباً ونقل تقنيات المراقبة والتتبع، ولا يقتصر هذا التعاون على الحكومات المعترف بها، بل يمتد إلى المليشيات، حيث تعاونت الجهات الأوروبية مع قوات اللواء حفتر، وكانت ثمرة ذلك العمل المشترك معسكرات جماعية على الأراضي الليبية، حيث يُحتجز المهاجرون في ظروف غير إنسانية، ويمارس عليهم التعذيب بشكل اعتيادي.
في الضفة الجنوبية للمتوسط، تقاعست الحكومة المصرية لأيام عن إصدار أي تعليق يخص المأساة، مع أن غالبية الركاب على ما يبدو من المصريين، وبعدها اكتفت ببيان هزيل وروتيني.