في"جاسوسية" عمرو سالم و"فساده"
أُرفق التعديل الوزاري الأخير في دمشق، بشيء من "الدراما" تماشياً مع الأجواء الرمضانية. إذ تم تقديم موسم جديد – غير معلن رسمياً هذه المرة – من مسلسل "مكافحة الفساد"، الذي يتم تجديد مواسمه كل سنة، على مدار أكثر من عقدين، وذلك منذ الأشهر التي سبقت تولي رأس النظام، بشار الأسد، للسلطة عام 2000، والتي شهدت أول، وأضخم تلك المواسم، متمثلاً بعزل رئيس الوزراء، محمود الزعبي، بتهمة الفساد، قبل نحره برصاصات عدة.
التمهيد للموسم الجديد، سبقَ رمضان، وكان مختلفاً هذه المرة. إذ اتُهم وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عمرو سالم، بـ "الجاسوسية"، عبر وثيقة مخابراتية سُرّبت من خلال صفحة "فيسبوكية" موالية، تتمتع بمتابعة مرتفعة، اسمها "الفساد في سوريا". ووفق الوثيقة المزعومة، فإن مخابرات النظام حذّرت الأسد، من شبهة اتصالات جرت بين عمرو سالم وبين شخصيات محسوبة على المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، خلال فترة تواجده في الولايات المتحدة، وعمله لصالح شركة "مايكروسوفت". ونصحت الوثيقة، المؤرخة بعام 2005، والصادرة عن "القيادة القطرية لحزب البعث"، بتوقيع مدير مكتب الأمن القومي، بعدم "إسناد أي وظيفة رسمية عامة له (لعمرو سالم)"، لأن ذلك "يشكل خطراً واضحاً ومباشراً على ...الأمن الوطني للجمهورية العربية السورية".
كان عمرو سالم، في التاريخ المزعوم لصدور تلك الوثيقة، مستشاراً شخصياً لـ بشار الأسد، الذي عيّنه بعد ذلك التاريخ، بعام واحد فقط، وزيراً للاتصالات. مما يجعل الوثيقة المسرّبة، إدانة شخصية مباشرة لرأس النظام، كونه تجاهل تحذيراً من أجهزته الأمنية، بشبهة "جاسوسية" محتملة، تحوم حول الوزير المشار إليه.
لكن الوثيقة التي تم تداولها على نطاق واسع في وسائل التواصل والإعلام، سُرّبت عبر صفحة وصفها تعميم لوزارة الداخلية، صدر عام 2021، -إلى جانب أخريات- بأنها "مشبوهة ومرتهنة للخارج وتسعى لوهن عزيمة الأمة والمواطن". مما يعني تبرؤ النظام من الصفحة، ومما تنشره، رغم أن "النَفَسَ" الذي تبثه موالٍ حتى العظم، ومعظم التعليقات على منشوراتها، تؤشر إلى أنها من موالين ومقيمين في مناطق سيطرة النظام.
عند هذه النقطة، كان يمكن تجاهل ما أُثير حول عمرو سالم، قبل أسابيع، من الإطاحة به. لولا أن التمهيد المتعلّق بـ "جاسوسية" الوزير، أُتبع لاحقاً باتهامات له، ولزملائه المُقالين، بالفساد. وهذه المرة، لم يتم تمرير هذه الاتهامات عبر الصفحة "الفيسبوكية" المشار إليها، فقط. بل، ولضمان انتشارها بشكل كافٍ، تم نشرها أيضاً عبر صفحة منسوبة لمستشارة الأسد، لونا الشبل. هذه الصفحة، التي لا تحظَى باعتراف رسمي –هي الأخرى-، تكلمت بالتفصيل عن ملفات فساد يتم التحقيق فيها، وتطاول وزراء التجارة الداخلية والنفط والصناعة، المقالين. وكان الإعلامي نضال معلوف، أحد من اعتمد على صفحة "لونا الشبل" المزعومة، مؤكداً أنها ترجع للمستشارة، رغم عدم إقرارها بذلك، مشيراً في تسجيل على قناته في "يوتيوب"، إلى تهمة الفساد التي تلاحق "عمرو سالم"، مجدداً، بعد أن أُقيل في العام 2007، على خلفية شبهة فساد أيضاً. وأشار معلوف، وهو رئيس تحرير موقع "سيريانيوز" الشهير قبل العام 2011، إلى أن تناقل الإعلام غير الرسمي لتفاصيل اتهام سالم بالفساد عام 2007، كان بتوجيه من سلطات النظام. وها هي القصة تتكرر اليوم، لكن عبر وسائل التواصل.
الوزير سالم، كان قد بُرِئ –رسمياً- من قضية الفساد التي أُقِيل على شبهتها، نحو العام 2008. ورغم ذلك، كان من المستغرب أن يتم تعيينه وزيراً، مجدداً، في صيف العام 2021. نظراً لأن الجمهور السوري، لم يقتنع على نطاق واسع، ببراءته، خاصة أنه كان يُوصف قبل العام 2005، بأنه صديق شخصي لـ بشار الأسد، وقد أسس إلى جانبه، "الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية"، قبل توليه للسلطة. أي أنه كان يحظَى بعلاقة متينة مع رأس هرم النظام.
في الإعلام الرسمي، تغيب أية إشارة لأسباب إقالة الوزراء الخمسة، قبل أيام. لكن الأسد، الذي أدى الوزراء الجدد، اليمين الدستورية أمامه، يوم السبت، أطلق تصريحات، يمكن تأويلها بعدة وجوه. إذ قال إن "تغيير الأشخاص ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة وأداة لرفع.. سوية العمل.."، قبل أن يشير في موضعٍ آخر إلى "وجوب عدم التساهل في موضوع الفساد، حيث لا يكفي أن يكون المسؤول نزيهاً بل يجب أن يكون قادراً على محاربة الفساد داخل وزارته أو مؤسسته". والتصريح الأخير قد يُؤَوَّل على أنه إشارة إلى تقصير الوزراء المقالين في مكافحة الفساد داخل وزاراتهم، في أقل تقدير.
ومنذ الساعات الأولى، للإعلان عن التعديل الوزاري الأخير، ذهب معلّقون إلى أن غايته، "التنفيس"، وتخفيف حالة الاحتقان في الشارع الموالي، جراء التدهور المعيشي المستمر. خاصة مع قفزة الأسعار الأخيرة في رمضان، التي تصل إلى نحو 100%، مقارنة بالأسعار في رمضان من العام الفائت، وفق مصادر شبه رسمية. وكان من المتوقع أن يتم تحميل الوزراء المقالين مسؤولية الأزمات المعيشية المتفاقمة. ولم يكن مفاجئاً اتهامهم بالفساد. فقد حدث ذلك أكثر من مرة، في السنوات السابقة.
بالنسبة لمراقب خارجي، قد يكون من المفاجئ اعتماد سلطات النظام لنفس الآلية المكرورة، مجدداً. أي اتهام مسؤولين محددين بالفساد، وتحميلهم وزر كل المشاكل، عبر تسريبات غير رسمية، في محاولة لإلهاء السوريين في مناطق سيطرة النظام، وحرف تفكيرهم بعيداً عن السبب العميق لمشكلاتهم. لكن التهليل الكثيف الذي رافق الإطاحة بـ عمرو سالم، في تعليقات الموالين عبر وسائل التواصل، يؤكد أن نهج السلطات "التنفيسي"، يؤدي الغرض منه، على غرار ما فعلته، وما تزال، الدراما والكوميديا المحلية، الموجّهة، والتي تحظى بسقف مرتفع من حرية النقد، ضمن قواعد لعبة متفق عليها، مع أجهزة الأمن.
وقد زادت الصفحات "الفيسبوكية" الموالية، جرعة "التنفيس"، في الأيام التالية لإقالة عمرو سالم. فبعد أن انهالت التعليقات التي "تحمد الله" على إقالة "وزير البصل"، و"وزير البطاقة الذكية"، سيئة الصيت في أذهان السوريين، مررت صفحات موالية شائعات عن احتمال إلغاء تلك البطاقة. فيما أشارت أخرى إلى حجم أرباح مزعوم، تحققه شركة "تكامل" المشغّلة للبطاقة، تصل إلى نحو 400 مليار ليرة سورية، شهرياً. اللافت أن الشركة المشار إليها، سبق أن تناولتها شائعات كثيرة، بوصفها إحدى أدوات زوجة الأسد، أسماء الأخرس، في إحكام السيطرة على مصادر الدخل في البلاد.
فهل كان عمرو سالم، فاسداً، حقاً؟ مع حجم اللغط المقصود والموجّه، حول الرجل، لا يمكن التيقن من ذلك. فقد يكون الوزير المُقال ضحية صراعات قوى النفوذ والمصالح داخل تركيبة النظام. أو مجرد كبش فداء. إذ أن الحديث "شبه الرسمي"، عن فساد وزير، أو وزراء محددين، في منظومة الإدارة في سوريا، لا يمكن فهمه إلا بأنه "تنفيس درامي"، في بلدٍ يحتل المرتبة قبل الأخيرة، في مؤشر الفساد العالمي، وفق منظمة الشفافية الدولية.
ومما يؤكد "البعد التنفيسي" للحملة على عمرو سالم، هي شبهات الفساد الكبيرة التي تحوم حول خليفته، محسن عبد الكريم، الذي كان يدير مؤسسة "عمران" الخاصة بمواد البناء، منذ ثماني سنوات، والذي يُعتقد، على نطاق واسع، أنه عرّاب تهريب تلك المواد من لبنان، وتجارتها في السوق السوداء السورية، في السنوات القليلة الفائتة.
وفي الختام، لا يمكن للمراقب لعلاقة المسؤولين الرسميين في سوريا، مع رأس هرم النظام، إلا أن يستشعر ميلاً "سادياً" لدى صانع القرار، للتنكيل بأكثر الشخصيات إظهاراً للولاء إلى حد التذلل والابتذال. ينطبق ذلك اليوم، على عمرو سالم، الذي قال في منشوره الوداعي للوزارة، إنه وزير بشار الأسد، "في الوزارة والبيت والقبر".