محرقة كنيسة إمبابة في المنفى العشوائي

شادي لويس
الأربعاء   2022/08/17

اعتدنا تلك الصور: الكنائس المحترقة والتوابيت على أبوابها بينما النساء القبطيات في ملابسهن السوداء. تلتصق مشاهد العويل والبكاء بما هو قبطي، وكأنه تعريف له، وتعيد محرقة كنيسة إمبابة إلى الذاكرة سلسلة طويلة من الفواجع.

كانت إمبابة نفسها موقع لعدد من أحداث الفتنة الطائفية من اقتتال "إمارة إمبابة" مطلع التسعينيات، إلى "فتنة إمبابة" العام 2011، تلك الفتنة التي كانت بمثابة إشهار لدخول ثورة يناير إلى فوضى الدم. ولم يكن احتشاد الموت في حي إمبابة على سبيل الصدفة.

بعد الحريق، أشارت وزيرة التضامن، نيفين القباج، إلى ضرورة مراجعة أوضاع "الكنائس الخطرة"، إلا أن الخطر لا يسكن الكنائس وحدها. تمتد إمبابة، مثلها مثل معظم أحياء القاهرة المتواضعة على المساحة الرمادية بين الرسمية وغير الرسمية. ما يطلق عليه تسمية العشوائي، ليس عشوائياً تماماً، بقدر ما هو بنية معقدة من تراكمات التحايل والحلول المرنة وتحدي السلطة ومهادنتها واقتناص الفرص الشحيحة وتشكيلات اللاقانونية المتعمدة، تلك البنية التي تختلقها السلطة وترسخها كإحدى أدوات الحكم.

تخلت الدولة عن أدوارها التنظيمية ومهام توفير الخدمات والتخطيط، وأدارت ظهرها لتمدد المخالفات وتراكب طبقاتها لتصبح هي القاعدة وأساس المعايشة اليومية، وبقي تدخل ممثليها محصوراً في استغلال الهوة بين الرسمي وغير الرسمي والتلاعب بها وبحاجات المواطنين المنزوع عنهم مواطنتهم، لصالح فساد واسع. وعلى القياس نفسه أضحى هذا الفساد المقنن هو القاعدة لا الاستثناء، سمة الإدارة والتعاملات الحكومية.

يحاصر عموم سكان المدينة المحرومين داخل دوائر "اللارسمي" ويوصم سكانها بالعشوائية في جماعات، كأشباه مواطنين، فيما تكتسي كافة مناحي حياتهم من السكن إلى الكسب والتحصل على المرافق، بشبهة غير القانوني أو نصف القانوني في أفضل الأحوال.

في ذلك التموضع الهش، يمنح الحد الأدنى من الخدمات، في مقايضات سياسية بين الأهالي وممثلي المنظومة الحاكمة، كرشوة في مواسم الانتخابات أوهبات من رأس السلطة لتأكيد مفهوم علاقات الحكم المطلق في اتجاه واحد من أعلى إلى أسفل. ويتم هذا كله بتوسط من اللاعبين المحليين، صغار الموظفين والإداريين في أقسام الشرطة وإدارات المرافق وجهات التنظيم، بحسب الأهواء والتفسيرات الفردية وتضارب القرارات بين جهة وأخرى، ليضيف مستوى آخر لتفتت النظام والقانون، وتأبيد حالة الهشاشة وعدم اليقين المتجدد.

الكنائس، في تلك الأحياء بالأخص، تحمل لعنة مضاعفة. يتحايل الأقباط من أجل بناء كنائسهم، ويغامرون بمقامرات خطرة في سبيل هذا، وهم عالقون بين منظومة قانونية تعود إلى الزمن العثماني وخطه الهمايوني وبين جيرة معادية سممها خطاب الطائفية، ويستفز كرامتها الجريحة مرأي صلبان الكنائس وقبابها.

تبعات هذا المقامرة قد تصل إلى الموت، يتحول مبنى سكني إلى مكان عبادة متخفٍ، وفي أحيان كثيرة يكون المبنى نفسه من دون ترخيص أو واقعاً في الصحراء الشاسعة من اللارسمية المختلقة بحكم تراخيص غير مكتملة. قد يستغرق الأمر عقود  عديدة قبل أن توفق أوضاع محل العبادة "العشوائي" وتحويله إلى كنيسة مرخصة، وإن حدث هذا، فإنه لا يتم في الأغلب على مرحلة واحدة، بل على دفعات. في هذا يبدو كل مبنى لكنيسة كمتاهة من تاريخ التحايلات والشد والجذب وتراكمات من التظلمات والمقايضات والفتن الطائفية والخوف وبضعة حرائق متعمدة أو غير متعمدة، يترك ذلك بصمته أو يستعلن نفسه في مبنى خرساني، يحمل بصمة تاريخ من التشوهات القسرية، بلا جمال معماري على الأغلب، وبالحد الأدنى من معايير الأمان والسلامة إن وجدت.

لا تشتعل النيران في كنيسة إمبابة بفعل عمل طائفي كما يلمح البعض، أو بحسب خطة من الأجهزة الأمنية لتشتيت الانتباه كما يلوك مروجو نظرية المؤامرة، بل لأنها تقع في ذلك المنفى "العشوائي" الهائل، وعلى هامشه، حيث يعيش الناس على سبيل المخالفة الدائمة وكحالة ممتدة من كسر القانون، وحيث لا تصل خدمات الإسعاف ولا المطافي، وحيث تنزع عن حيوات السكان شرعيتها، فتحسب كنصف حياة أو أقل.