على هامش ما يحدث في درعا
حدث اتفاق في 2018 بين النظام السوري وأهالي درعا، ثم انقلب النظام على الاتفاق في أواخر حزيران/ يونيو 2021، وحاصر درعا. حدث اتفاق جديد برعاية روسية في الأول من أيلول/ سبتمبر، ثم انقلب النظام عليه بعد يومين، ومن ثم حصل اتفاق آخر، والاحتمال المؤكد أن النظام سينقلب عليه، ربما بعد أيام أو أشهر أو أكثر. كل اتفاق مع النظام السوري هو اتفاق مؤقت، فاستراتيجيته واضحة؛ إعادة كل المناطق السورية إلى سيطرته المطلقة، والمسار العام الإقليمي والدولي في مصلحته، فضلًا عن أن تشرذم السوريين وافتقادهم إلى طبقة سياسية متماسكة لديها رؤية وطنية ثابتة كان دائمًا هو النقطة الأساس التي استند إليها في تثبيت وجوده وحربه ضد السوريين.
في لقاءات تضامنية مع درعا وأهلنا فيها، كان السؤال المطروح: ماذا نستطيع أن نقدِّم إلى درعا في حصارها، وكيف يمكننا ذلك؟ وهو سؤال مشروع بالتأكيد، ويمكن فعلًا تقديم الشيء الكثير في حال توافر الوعي والإرادة والتنظيم. لكن، قياسًا بالتجارب السابقة، كان رأيي التحليلي أننا لن نستطيع تقديم الشيء الكثير؛ فمثل هذه الأسئلة تأتينا، ونناقشها، ونحاول البحث عن إجابات لها، في لحظة وقوع الحدث دائمًا، مثل الطالب الذي يدرس في يوم الامتحان فحسب، وهذا الفيلم، فيلم استفراد النظام بمنطقة سورية ما، شاهدناه عشرات المرات خلال السنوات الماضية. ألم يكن متوقعًا أن النظام السوري سوف ينقلب على أي اتفاق يعقده مضطرًا في لحظة ما؟! ألم تكن استراتيجيته معروفة وواضحة طوال السنوات الماضية؟! هذا يعني أننا نتعامل مع كل حدث بصورة منفصلة عن الأحداث الأخرى، ولم نغادر بعد عقلية "النفير" و"الفزعة" عند وقوع الكارثة، بدلًا من بناء استراتيجيا ترتكز على العمل المستمر والصبور على محاولة تلافي وقوع الكارثة أو الحدّ منها أصلًا.
أحيانًا تدفعنا معرفة المسار المتشائم على المستوى الاستراتيجي إلى الصمت، ويبقى هذا الأخير أفضل أو أقل ضررًا من قذف الكلام في الهواء، والصرخات التي لا تقدِّم ولا تؤخِّر. ما الذي يمكن أن نقدِّمه لدرعا في ظل معرفتنا بالأوضاع الإقليمية والدولية المتوافقة مع سياسات النظام السوري في الاعتقال والقصف والتهجير؟! ما الذي يمكن أن نقدّمه لدرعا في ظلّ تشظي الثورة السورية إلى "ثورات" لكل منها خصائصها ومقاساتها وأيديولوجيتها وارتباطاتها وقواها وشخصياتها ومساراتها الخاصة؟! أعتقد، على العكس، أن ابتعاد أولئك الذين ركّبوا وصمّموا الشمال السوري، بكل فوضويته الراهنة، عن درعا، أفضل لدرعا وأهلها. مع ذلك، يبقى السؤال مشروعًا وراهنًا وضروريًا، لكنه يحتاج إلى تفكير مغاير للتفكير الذي ساد طوال عشر سنوات.
تأتي مطالبة بعض المعارضين لدرعا وأهلها بالصمود لتضيف، في الحقيقة، إلى الجرح ملحًا، تمامًا مثل مطالبات النظام السوري لمواليه بالصمود أيضًا. وجه الاعتراض على هذا الأمر هو أن من هم تحت النار هم الذين يحدِّدون، على مستوى هذه النقطة بالذات، قدراتهم، وفي ما إذا كانت تتوافر لديهم مقومات الصمود، وليس غيرهم، وإلا ستكون المطالبة كمن يقاتل بدماء غيره. من واجبنا، وفي حدود قدراتنا، نحن المقيمين خارج سورية، أن نقدِّم تحليلًا صائبًا، ومن دون أن نخدع أنفسنا أو أهلنا بأوهام ووعود لا طاقة لنا بها، فكثير ممن هم خارج سورية لم يقدِّموا لمن هم داخل سورية إلا تحليلات خاطئة، وعنتريات، وبهلوانيات، وشعارات، كانت عونًا لسياسات النظام الإجرامية بطريقة أو أخرى. ما يثير الاستهجان أيضًا أن يدخل البعض في تقييم خيارات أهل درعا، من حيث الصمود أو عدم الصمود، وطنيًا وأخلاقيًا. نقد الخطاب والأداء مطلوب في كل لحظة، لكن تقييم خيارات البشر التي تتعلق بقدراتهم الذاتية، في الصمود أو الرحيل أو أي خيار آخر، مسألة مرفوضة.
فوضى الشمال السوري بهيئاته وأيديولوجياته وأجنداته وسلاحه وارتهاناته وارتباطاته، منفِّرة، ومثيرة للغثيان، ولا تشجع أحدًا، لا من السوريين، ولا من الدول، على فعل شيء ما، وأمره متروك لمزيد من الاهتراء والتفسخ، ليصبح جاهزًا للصفقات والاقتحامات والتهجيرات. الحالة في درعا مختلفة نسبيًا، فقد تغلب الحس السليم، الحس الفطري للبشر؛ هناك شيء من الخطاب الوطني، وشيء من العقلانية في الخطاب والأداء والتفاوض، وشيء من التضامن الداخلي، وشيء من المركزية في القرار، وشيء من الكرامة الوطنية، وهذا أمر مشجِّع، على الرغم من وجود بعض الأصوات الشاذة عن هذا السياق، لكن تأثيرها ما زال محدودًا على المسار العام الصحيح.
كثيرًا ما كانت الدعوة إلى الداخل للصمود والمواجهة من جانب من يعيش في طمأنينة أمرًا ممجوجًا، فهم أدرى بقدراتهم الذاتية، لكن يمكن لمن هو في الخارج أن يدعوهم، بتواضع، إلى الاهتمام بتحقيق انتصار سياسي أكثر كثيرًا من العسكري، وألّا يغفلوا دور الكلمة والخطاب، ودور السياسة، ودور الصوت الوطني، الهادئ والعاقل، الصوت الذي لا يتحدث عن الدماء والانتقام، والذي لا يندرج في لعبة النظام وإيران في جرّ السوريين إلى الخطاب الطائفي.
هل يمكن أن نغني صوت العصافير والدماء من حولنا؟! نعم ممكن. هناك كثير من الألم، وكثير من عض الأصابع. أصلًا النظام جرّ السوريين إلى خطابات متشنجة وكراهية على وقع الرصاص، بحكم معرفته بأن حضور السلاح، وممارسة القتل، سيغيّب العقل، جزئيًا أو كليًا، عند الطرف الآخر، خاصة إذا ما أضفنا إلى ذلك لعبته التي ترتكز على كونه ممثلًا لـ "الدولة" و"الشرعية"، وأي مسلح في مواجهة الشرعية هو إرهابي، هذا هو المزاج العالمي العام على مستوى الحكومات والشعوب. وللأسف فشلت التشكيلات السياسية في بناء شرعية أخرى أمام العالم أو في الأحرى صرفت الشرعية التي حققتها الثورة السورية في البدايات في طرق ودهاليز ذاتية وأيديولوجية وفصائلية وإقليمية، والشمال السوري شاهد كبير على ما أنتجته يداها.
مع بدء حصار درعا البلد منذ أكثر من شهرين، كان رأيي أن السؤال الحقيقي والأجدر الذي يمكن أن يُطرح هو: ماذا تستطيع درعا أن تقدِّم إلى السوريين في هذه اللحظة؟ على عكس السؤال الشائع. وفي تقديري أنها فعلت أكثر كثيرًا من قدراتها. بدلًا من أن يأخذ أولئك الدروس والعبر من حركة طالبان، فليأخذوها من درعا! درعا في كل مرة كانت تعيد الدرس، وتضع القطار على السكة الصحيحة، لكن يبدو أنهم ثابتون على ضلالهم وأوهامهم.