سوريًّا؛ هل هناك أمل؟!
هناك شعور سوري عام بالغرق أو الضياع، والوقائع تكاد تمحو ما بقي من أثر لدولة سورية أو شعب سوري، وتكاد سورية تسقط من حسابات العالم إلا من جانب تأثير أزمتها في الدول المجاورة أو ارتداداتها في العالم. هل ستبقى الطرق مبهمة ومفتوحة على المجهول؟ هل فقدنا التأثير في حياتنا ومستقبلنا، وأصبحت أمورنا رهن النظام السوري وداعميه، ورهن المعارضات الفصائلية، ورهن مواقف الدول الكبرى ومصالحها فحسب؟
عندما تشتد الأزمات تكثر الأسئلة عن الأمل؛ هل هناك أمل، هل هناك مخرج؟ هذا هو السؤال الذي يقبع في رأس كل سوري؛ سؤال جامع يطال الموالي والمعارض، العربي والكردي، السوري داخل البلد وخارجه، الإسلامي وغير الإسلامي، العلماني وغير العلماني، وهذا أمر طبيعي. وتنقسم الإجابات عمومًا إلى إجابتين عامّتين؛ الإجابة الأولى تفاؤلية تؤكد أن الأمل موجود دائمًا، لكنها تقدِّمه بطريقة سحرية أو إيمانية أو حتمية، فيما تذهب الإجابة الثانية في طريق تشاؤمي تسدّ الأبواب جميعها، وهي أيضًا تقدِّم نفسها بطريقة إيمانية أو حتمية، والملاحظ هو أن المزاج الفردي، تفاؤلًا أو تشاؤمًا هو ما يحكم الإجابة عن السؤال في أغلب الأحيان. لكن المهم هو أن تأثير الإجابتين، التفاؤلية والتشاؤمية على البشر يكاد يكون واحدًا بحكم أن طريقة إخراجهما وتصديرهما وتبريرهما واحدة؛ لا تغير الإجابة التفاؤلية شيئًا في هذه الحالة، ومثلها أيضًا التشاؤمية.
تصبّ الإجابات التفاؤلية، في أغلب الأحيان، في طاحونة صناعة الوهم، وهناك فرق كبير بين صناعة الأمل وصناعة الوهم؛ يركّز المتفائلون على حجة التاريخ: اقرأوا التاريخ، فالأمل يطلّ من كل صفحة في صفحاته، لا سلطان في التاريخ يدوم، والفجر يأتي بعد الليل، والانتصار محتوم بعد الهزيمة، والظلم لا يبقى مستمرًا. هذا نمط من الإيمان بالمستقبل والأمل أقرب إلى الإيمان الديني أو الأيديولوجي. حجة التاريخ هذه صحيحة نسبيًا، لكنها لا تعطينا قانونًا حتميًا، فالتاريخ نفسه أيضًا حافل بدول وشعوب تعرضت للهزيمة واستمرت فيها، وهناك دول وممالك كثيرة زالت من الوجود.
أما الحجة الثانية للمتفائلين فهي الحجة الحقوقية؛ الحق معنا، والحق سينتصر حتمًا ضد الباطل. لو كان هذا صحيحًا بصورة إطلاقية لاسترجعنا فلسطين منذ زمن طويل، فانتصار الحق ليس حتميًا، والتاريخ لا تصنعه الحقوق فحسب، بل موازين القوى أيضًا، ولا قيمة للحق ما لم تتوافر له أسباب القوة بمعناها الشامل. التاريخ هو صراع دائم نحو تحسين شروط الحياة، لكن الظلم لم يغب، ولن يغيب، يومًا واحدًا، فضلًا عن تغير ماهية الحق والباطل عبر مسيرة التاريخ.
أذكر أن أحد معارضي النظام السوري كان يقدِّم في المساء تحليلًا سياسيًا مغايرًا لتحليله في الصباح، وآخر كان تحليله يتغير بحسب توجهات الصحيفة التي يكتب فيها، وآخر يشتق تحليله من إيمانه الديني بانتصار الحق ضد الباطل وكأننا ما زلنا نعيش لحظة الصراع بين المؤمنين والكفار، وآخر يشتق تفاؤله من إعجابه بصوته العالي، وخطابيته الشعرية، فكلما ارتفع صوته زادت حتمية الانتصار، وآخر يلجأ إلى تزوير الوقائع ربما بقصد حقائق جديدة في الواقع، ومن ثم خلق التفاؤل الذي تريده "الجماهير"، لكن "حقائقه" لم تكن تصمد طويلًا، وكانت تؤدي إلى عكس ما أراد بعد انكشاف زيفها، وهكذا... إلخ. المشكلة أن بثّ الأمل غالبًا ما يترافق برؤية زائفة إلى الواقع أو بتزوير الواقع، ولذلك يكون إمعانًا في التضليل وإنتاج الفشل، ومن ثم تعميق الكارثة.
يرى كثيرون أن صناعة الأمل من واجبات السياسي، وأن السياسي الحذق هو الذي ينسج من خيوط اليأس أملًا وأطواقًا للنجاة، وفي هذا الشأن قال نابليون بونابرت "لا نحكم شعبًا إلا بأن نريه المستقبل، القائد هو تاجر الأمل". نعم هذا صحيح، لكن كي لا يصبّ هذا في صناعة الوهم، ينبغي للسياسي أن يتحلّى بالعقلانية، ويبتعد كثيرًا من الشعبوية، ونابليون نفسه كان يرى أيضًا أن "قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه".
في الحقيقة، إن صناعة الأمل إحدى المهمات الاستراتيجية للدولة، وصناعة السعادة أيضًا، لكن دولنا برعت في صناعة الألم بدلًا من الأمل. الدولة السورية غير موجودة اليوم أو هي غير موجودة منذ زمن طويل، أو هي دولة لم تعرف إلا إنتاج الفشل طوال نصف قرن، ولو كانت موجودة لما وصلنا إلى هذه الحال. لكن في حال غياب الدولة، ينبغي للمهمة، في اعتقادي، أن تقع على عاتق النخب الثقافية والسياسية بصورة أساسية، على الأقل من حيث رسم معالم مستقبل توافقي مرضٍ لأغلبية السوريين.
الأمل وثيق الصلة بواقع عيش الناس، ما الذي يمكن أن يقدِّمه الآن، مثلًا، وفي هذه اللحظة، أي سياسي أو مثقف، للجائعين والمشردين والعالقين على الحدود ولذوي المعتقلين، وللمعتقلين أنفسهم؟ في الحقيقة، في مثل الأحوال هذه، تختنق الكلمات التفاؤلية قبل أن تخرج، لأنها لا تستطيع أن تطعم جائعًا أو تساعد مشردًا أو تنقذ معتقلًا. من حق الناس ألّا تستمع إلى دعوات الأمل التي لا تلبي حاجاتهم الطبيعية اليومية، وعلى السياسيين والمثقفين، وغيرهم، أن يتفهموا إعراض الناس عنهم.
وجود الأمل هو الدافع الأول بالنسبة إلى كثير من البشر لينتجوا ويعملوا، لأنه يعطيهم الحماسة، ويشجِّعهم على مواجهة الصعوبات والعقبات. بمعنى آخر، كثير من الناس لا يستطيعون العمل من دون أن يرى بصيصَ أمل. هذا يطرح تساؤلًا مهمًا: أيهما أولًا الأمل أم العمل؟ أعتقد هنا أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق النخب الثقافية والسياسية بدرجة أولى، فمهمتها الأساسية في مثل هذه اللحظات هي صناعة الأمل لتحفيز أكثرية الناس على العمل، وهذا غير ممكن من دون إعادة النظر في تفكيرها وممارساتها ونقد نفسها أولًا، ومن دون توافقها على مشروع عام، وتنظيم نفسها ثانيًا.
يشكِّل الأمل الذي يبنيه العاقلون حماية للمجتمعات من الانكسارات في أوقات الكوارث والهزائم. في عام 1993، تعرّضت (البوسنة والهرسك) لحرب إبادة جماعية، ولحصار خانق، فقام أهلها، خلال ستة أشهر، ببناء نفق لربط العاصمة (سراييفو) بالعالم لكسر الحصار، وأطلقوا عليه اسم "نفق الأمل"، وكان ممرها الوحيد إلى العالم الخارجي في أثناء الحصار الذي استمرّ حتى شباط/ فبراير 1996، وبعد انتهاء الحرب أصبح هذا النفق أهم مزار سياحي في العاصمة. نعم، الأمل يُصنع صناعة.
لا تعبِّر الرؤى التشاؤمية الموجودة عن رؤية عقلانية بالضرورة، خصوصًا أن أصحابها غالبًا ما يفكرون بطريقة تفكير المتفائلين نفسها، الإيمانية والحتمية، فضلًا عن أن أكثرية المتشائمين اليوم كانوا من أكثر المتفائلين قبل سنوات قليلة. اليوم، لم يعد الحديث عن العناصر أو العوامل المفسِّرة للتشاؤم شطارة أو دليل حكمة، فقد أصبحت اليوم بديهية ولا تحتاج إلى كثير من المعرفة أو الذكاء لاكتشافها أو حصرها. كانت الشطارة تتمثل بمعرفتها أو التحذير منها قبل أن تصبح واقعًا يفقأ العين. يقول الفيلسوف الروماني "إميل سيوران": "المزعج في اليأس أنه بديهي وموثَق وذو أسباب وجيهة… والآن أمعنوا النظر في الأمل، تأمّلوا سخاءه في الغش، رسوخه في التدجيل، رفضَه للأحداث: إنه تيه وخيال، وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال تتغذى". الشطارة اليوم هي في بناء الأمل على أسس عقلانية، من دون أوهام أو تزوير أو تضليل.
تقلّب معظمنا، ولا يزال، خلال السنوات الماضية، وبصورة يومية، مع تغيّر الوقائع، بين طرفي نقيض. انتقلنا مرات عديدة من أقصى مشاعر الأمل إلى أعلى درجات اليأس، وليس من اسم لهذا التقلّب سوى الخلل في قراءة الواقع وفي طريقة التفكير. كان التفاؤل غير العقلاني سببًا لتوقّع إنجازات كبيرة، ودافعًا للاستعجال في العمل والأداء، وكان التشاؤم غير العقلاني سببًا للانسحاب والسلبية بعد انكشاف الواقع وعقباته وتحدياته. لكي نعيش حاضرنا، ونصنع مستقبلنا، بواقعية وعقلانية من جهة، وبفاعلية وإيجابية من جهة أخرى، ينبغي لنا إعادة النظر في طرائق تفكيرنا أولًا، والاندماج في العمل ثانيًا. الإرادة وحدها ليست كافية، الإرادة مثل الطاقة الموجودة لكن غير الموظّفة أو المستخدمة، فالتعبير عن الإرادة لا يكون إلا من خلال تحويل الطاقة إلى حركة، أي عبر العمل والاجتهاد.
الصبر صفة ضرورية لكل من يعمل في الشأن العام، ومن دونه يُفضّل أن يجلس المرء في بيته. ستكون هناك دائمًا مشكلات وهزّات، ولحظات دقيقة وخطرة في الحياة، وحسب المرء، بحسب تعبير ياسين الحافظ، أنه يسير في الطريق الصحيحة: "الثوري/ السياسي الحق لا يتساءل كثيرًا هل سيثمر نضاله أم لا. إنه يعرف أن عمله سيمكث في الأرض، إنه يبذر كل يوم ولكل ريح، والأرض لا بدّ معطاء. الثوري/ السياسي الحق يناضل فحسب، يخدم فحسب: هذا هو قدره ومعنى حياته. ما دام التقدم سيرورة تاريخية وعملية تراكم، لذا لا يفتش عن حصيلة قريبة ومباشرة، رغم حرصه عليها واهتمامه بها. يكفيه أنه عمل ويعمل في الطريق الصحيح. لا يخاف الغد. يتوخى النجاح، ولكنه لا يخشى الفشل، لأن ليس ثمة فشل مطلق على المدى البعيد. سيحزنه الفشل، إذا حدث، فقط لأنه مؤشر على أنه لم يستطع أن يخدم بكيفية مناسبة وفعالة... إلخ".
الأمل ليس مجرد كلمة تقال، بل يُصنع صناعة، وما دام كذلك فإنه عملية أو سيرورة تحتاج إلى إنضاج شروطها وتوفير عوامل وجودها باستمرار. الواقع متخم بالعوامل التي تثير التشاؤم، لكن السؤال المهم، والمركزي، في هذا الشأن، هو: كيف نصنع الأمل والمستقبل في هذا الواقع المرير الذي يبعث على التشاؤم في كل لحظة؟ انطلاقًا من أننا جميعًا نبحث عن مستقبل إيجابي، وإن اختلفنا من حيث التفاؤل والتشاؤم. الأمل موجود دائمًا وأبدًا، لكنه يحتاج، كي يكون أملًا عاقلًا وحكيمًا، إلى الاعتراف بواقعنا المهزوم أولًا، ومعرفة عوامل فشلنا الفعلية ثانيًا، وإلى تغيير طريقة تفكيرنا في مقاربة الوقائع ثالثًا، وإلى فضيلة الصبر رابعًا، وإلى الإرادة خامسًا، وإلى العمل والاجتهاد سادسًا.
لا بدّ من جمع ما يبدو أنهما نقيضان في طريقة تفكيرنا؛ الاعتراف بالواقع المهزوم، وصناعة الأمل بطريقة عقلانية. صناعة الأمل في الحالة السورية معناها أننا شعب طبيعي، ابن التاريخ، لسنا فوق التاريخ ولا تحته، وما أصابنا أصاب غيرنا، لكن الخروج مما نحن فيه يحتاج إلى شروط ينبغي توفيرها على مستوى التفكير والعمل بصورة أساسية، وهذا هو الأمل بالمعنى التاريخي.