كوهين مثابراً على فضحهم
قبل حوالى ثلاث سنوات، أثارت استعادة ساعة يد كوهين ضجة، إذ هنّأ نتنياهو الموساد على استعادتها بعملية خاصة، بينما تم تداول رواية عن شرائها من بلد عدو "أي من سوريا"، حيث من شبه المؤكد أن هذا التذكار كان في حوزة شخصية من المستوى الأعلى للسلطة. ولا يخفى أن الآمال الإسرائيلية باستعادة الرفات انتعشت في السنوات العشر الأخيرة بسبب حاجة بشار إلى الغطاء الإسرائيلي، وانتعشت أكثر مع التدخل العسكري الروسي بوجود بوتين في الكرملين.
في 18 أيار 1965سارعت سلطة البعث إلى إعدام كوهين شنقاً، ودُفن في مكان سري إثر تحقيق ومحاكمة مستعجلين وفق الرأي الشائع آنذاك. سبب الاستعجال الذي كان يسرّبه المسؤولون هو التخلص من إحراج الوساطات الدولية، وأيضاً لئلا يكون هناك وقت لدى الموساد لمحاولة تحريره، أو لاستعادة جثته بعد الإعدام. أما الرأي الذي كان شائعاً في أوساط عامة الناس فيردّ الاستعجال إلى رغبة سلطة البعث في التخلص سريعاً من فضيحة اختراق كوهين المستويات العسكرية العليا، واستغلال التحقيق والمحكمة لتصفية حسابات داخلية ستمهد لتصفيات أوسع في 23 شباط 1966.
فضح كوهين بنجاحه الساحق المستوى العسكري تحديداً من سلطة البعث، وحُمّلت المسؤولية آنذاك لرئيس الأركان الضعيف، في حين سُكت تماماً عن الضباط الذين كانوا يتحكمون فعلياً بالجيش. لم يُعاقب، ولو مسلكياً، كثر ممن تلقوا هدايا ثمينة كان يغدق بها عليهم. أُقفل الملف بسرعة شديدة درءًا للفضائح، ليفوز كوهين بإخلاصه لوطنه مقابل أولئك المستهينين بأبسط قواعد حماية الأمن الوطني، ومنهم حافظ الأسد الذي كان قد رُقّي من رتبة مقدم إلى رتبة لواء دفعة واحدة ليُعيّن قائداً للقوى الجوية والدفاع الجوي عام 1964، وهو منصب لا يفوت كوهين الاعتناء به جيداً.
دفنه في مكان سري، ثم نقل رفاته مراراً، فيه إقرار من السلطة بعجزها عن حماية الرفات على مستويين، المستوى المباشر بوجود حراسة تقليدية، والمستوى الآخر المخابراتي الذي لا تضمن فيه السلطة عدم اختراقها لصالح الموساد، ومع كل نقل جديد تتجدد الخشية من اختراق العارفين بمكانه. لدينا من جهة سلطة لا تملك مجموعة صغيرة من الموثوق بهم، تحديداً إزاء العمالة لإسرائيل، ومن جهة أخرى ثمة يقين مفاده حرص إسرائيل على كرامة وتكريم رجالاتها أحياء وأمواتاً.
في الأصل، لو سلمت السلطة "بمعنى المتحكمين فيها" جثمان كوهين إلى طرف ثالث لما أُخذ ذلك عليها أكثر من نجاحه في التجسس، إلا أن تمسكها بالجثة والرفات في صلب خطابها عديم الحياء الذي يعتبرهما صيداً ثميناً لما لهما من قيمة لدى إسرائيل. الخطاب البعثي ثم الأسدي وأخيراً الممانع قائم في جزء منه على أهمية العنصر البشري لإسرائيل، وحرص تل أبيب على أبنائها، مقابل استعداد لا حدود له للتضحية بأبناء شعوب ما كان يُسمى دول الطوق.
بعبارة أخرى، هناك مفاضلة عديمة الحياء بين قيمة الإسرائيلي وانعدام قيمة نظيره السوري أو اللبناني أو الفلسطيني، وهي مفاضلة سارية حتى الآن. في حالتنا السورية خاصة، يشتد وقع المفارقة بين حكومة إسرائيلية، يرأسها فاسد يميني، تبذل قصارى جهدها لاستعادة رفات عمرها ستة وخمسون عاماً وبين سلطة أبادت واعتقلت وهجّرت أكثر من ثلث السوريين، وخرج رئيسها متباهياً بأن مجتمعه صار متجانساً.
عدم التوصل إلى معرفة مكان رفات كوهين ربما أعاق فضيحة أكبر، إذ كان من المرجح "لو عرفت هذه السلطة مكانها" أن تبيعها على النحو الذي بيعت به ساعته. الفضيحة حينها لن تكون فقط باستعدادها لبيع كل شيء، بل بتكسبها كعصابة بينما يعاني الواقعون تحت سيطرتها من أسوأ الظروف الاقتصادية والمعيشية. عدم معرفة مكان الرفات يُنقذ هذه السلطة من استعداد لامحدود للانحطاط، يختصر جانباً منه رفضُ المعتقلين من أبناء الجولان إطلاق سراحهما من السجون الإسرائيلية إذا اقترن بذهابهما إلى دمشق، لقد فضّلا عن معرفة وحق السجنَ الإسرائيلي على حرية لا تعني سوى تكسب إعلامي أسدي رخيص منهما.
قد يكون من الطرافة حقاً أن هذه السلطة التي حرصت على رفات كوهين بوصفها كنزاً قد أضاعتها من شدة الحرص، ربما نسي حافظ الأسد توريث أولاده هذا السر، إذ من المستبعد أن يكون قد وضعه لهم في أحجية على غرار القصص القديمة. وبسبب ما يبدو فقداناً للسر، لا بأس إذا استباحت القوات الروسية كافة الأماكن المشتبه بها، ونبشت القبور وأرسلت عينات منها لفحصها في تل أبيب، وإمعاناً في الإهانة تنبش قبور الفلسطينيين في مخيم اليرموك.
ليست المرة الأولى التي يعود فيها كوهين إلى الواجهة، فتفضحهم رفاتُه مثلما فضحهم انكشافه بجهد من مخابرات صديقة، وكأنه أيضاً مع كل مرة يستأنف تلك المحاكمة السريعة التي لم تعطه الحق بالتكلم وفضحهم على الملأ. أقرب الروايات قياساً لما أنزله حكم الأسد بسوريا، حتى إذا لم تكن صحيحة، ما نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية في نيسان 2019 عن نقل رفات كوهين ودفنها في كهف قرب القرداحة عام 1977. ربما في ما بعد كثر عبروا من جانب الموقع، وهم ذاهبون لزيارة ضريح حافظ الأسد. ربما، إذا صحت الرواية، تكون واحدة من مصادفات التاريخ العشوائية والصائبة.