إدلب مقابل طرابلس
الظروف الصعبة التي تمر بها بلدان ثلاثي أستانة، بسبب تضررها من فيروس كورونا، لا يبدو أنها ستنعكس إيجاباً على المدنيين في إدلب الذين لم يتعافوا بعد من آثار المعركة الأخيرة. وتعلم الأطراف المنخرطة في المعركة أن العالم الذي تجاهل مأساة أولئك المدنيين من قبل لن يتدخل في غمرة انشغال معظم الدول بالوباء المستفحل، بل إن القوى الدولية الأكبر هي التي أعاقت مشروع قرار أممي يدعو إلى هدنة عالمية وإلى التعاون الدولي لمكافحته.
صار من مألوف الصراع في سوريا أن تمهد الهدنة للمعركة اللاحقة، قسم من المعارك أتى وسيلة لتدوير مناطق النفوذ، والقسم الآخر يعبّر عن حاجة الأطراف المبادرة إلى الحرب. إذا كان هناك سابقاً ما يمنح بعض التفاؤل بالتفاهم الروسي-التركي الأخير فهو مجيئه من استنفاذ إمكانيات إعادة تقاسم الكعكة السورية؛ موسكو حصلت على القسم الأكبر جغرافياً، وأنقرة حصلت على المناطق التي تلبي مخاوفها من الأكراد، وواشنطن بقيت في المناطق الكافية لتحجيم تطلعات بقية الأطراف وعدم مرور تسوية لا تقبل بها.
الحاجة إلى الحرب لا تزال تجمع بين موسكو وطهران وتابعهما، كل منهم لحساباته الخاصة. لا يطمع بشار في تحقيق الانتصار، وقد حققت له موسكو وطهران تقريباً أقصى ما هو ممكن، وإدلب لن تضيف ثقلاً نوعياً أو اقتصادياً لما أُحرز من قبل. العبرة بالنسبة له هي في استمرار الحرب للتخلص من استحقاقات الاستقرار والسلام، وقد رأينا نموذجاً أولياً عن الانهيار الاقتصادي في مناطق سيطرته، ورأينا أيضاً مطالبات موسكو وطهران له بديون مستحقة. الحرب المستمرة هي ما ينقذه من المطالبات الداخلية والخارجية، فيُسكت الداخل بذريعتها ويَسكت الخارج مؤقتاً لئلا يشوش على الاصطفاف المطلوب في المعركة.
طهران لا تملك بدورها سوى خيار الحرب، لأن قضم المزيد من الأراضي يضمن لميليشياتها سيطرة إضافية على الأرض، ويمنحها ثقلاً ضمن التنافس مع موسكو التي تحاشت حتى الآن الزج بقواتها على الأرض، ولم تنجح كما تأمل في تمكين نصيبها من قوات الأسد لتصبح القوة الأساسية، مثلاً الفيلق الخامس الذي ترعاه لم يصبح نداً لتشكيلات أخرى في قوات الأسد تدين لطهران بالولاء. في المناورة مع تل أبيب تحتاج طهران إلى مدّ نفوذها، وهذه رسالة لأنصار الثانية مفادها عدم نجاح الغارات الإسرائيلية المتكررة في إخراجها من سوريا، مثلما هي حاجة حقيقية لاكتساب مواقع إضافية في حال الاضطرار إلى الانسحاب بعيداً عن الحدود مع إسرائيل. السيطرة على إدلب تعطي إيران ثقلاً لا يُستهان به معطوفة على سيطرتها السابقة على حلب.
معظم التحليلات ينص على أن موسكو حققت النصر في سوريا، لكن ما حققته لا يرقى إلى الصورة التي دأبت دعاية الكرملين على ترويجها. صحيح أن بوتين منع سقوط بشار، وصحيح أن أية تسوية مستقبلية لن تكون ممكنة من دون موافقة موسكو وبما يضمن مصالحها المستدامة، إلا أن التوقف عند الحد الحالي يفضح عجز بوتين أمام قوتين أخريين هما أمريكا وتركيا، فوق ما يكشفه عن زيف الدعاية الروسية حول استعادة السيادة السورية. وإذا كانت الأهمية الاستراتيجية لسوريا بالنسبة لموسكو تفوق أهميتها الاقتصادية فهي على الأقل لا تريد منطقة نفوذ قاحلة تصبح عبئاً عليها، حيث تضع خريطة النفوذ الحالية معظم منابع الثروة خارج سيطرتها.
ربما يكون أحد بواعث الحملة الإعلامية الروسية على بشار، التي قادها إعلام طباخ بوتين قبل مدة، القول أن السياسة الروسية صائبة تماماً، والمشكلة تنحصر في فساد سلطته. ليس فساد بشار "الذي تعرفه جيداً" ما أفاقت عليه موسكو وأحرجها، وقد لا يكون ذلك الضغط للحصول على صفقات اقتصادية يمكن الحصول عليها بلا ضجيج، ربما ما حدث لا يتعدى النأي بالنفس عن التبعات الفادحة لنصر منقوص، من دون أن نستبعد استدراجاً خفياً لتسوية تنقذ موسكو ولا يتلهف إليها الغرب بما تتضمنه من عوائد مرتبطة بإعادة الإعمار.
العامل الضاغط على موسكو أتى هذه المرة من ليبيا، فقوات حكومة الوفاق حققت انتصارات ميدانية بدعم من السلاح التركي والمرتزقة السوريين الذين أرسلتهم أنقرة، ومنيت قوات حفتر بهزائم فادحة مع أسلحتها الروسية ومرتزقة فاغنر الروس ونظرائهم السوريين الذين جندتهم موسكو في أماكن سيطرتها السورية. لقد أصبحت معركة طرابلس مؤجلة في انتظار إمدادات أقوى من السلاح والمقاتلين، وبدأت طلائع الدعم حسبما كشفت واشنطن بوصول مقاتلات روسية إلى قواعد حفتر، بعد أن أُعيد طلاؤها للتمويه في سوريا. أظهرت الجولة الأخيرة من المعارك الليبية تفوق الطائرات التركية المسيَّرة على منظومات الصواريخ الروسية التي يستخدمها حفتر، فضلاً عن تعثر الطموح الروسي هناك، وهذا ما يصعب على بوتين قبوله من "الشريك" التركي على مبدأ فصل الملفات.
كأن الساحة السورية ليس فيها ما يكفي من التعقيد والتناقضات، ليضيف عليها الوضع الليبي المزيد. التعقيدات غير متصلة فقط بتشابك وتناقض المصالح الروسية والتركية هنا وهناك، لدينا أيضاً القوى الإقليمية المساندة لحفتر والمناهضة لسياسات أردوغان عموماً، وتلك القوى تتجه لربط الساحتين، وتحالفها مع موسكو في ليبيا بدأ ينسحب على مواقفها المعلنة من القضية السورية. من شبه المؤكد مثلاً أن دولاً خليجية تساهم في تمويل التدخل الروسي في ليبيا، ولا يُستبعد أن تدعم موسكو لفتح معركة إدلب رغم أنها قد لا تكسب مباشرة من صيغة "إدلب مقابل طرابلس"، ورغم أنها قد تخرج من ليبيا بلا مكاسب على الإطلاق كما خرجت من سوريا سابقاً. كأن إدلب تحديداً مجرد صندوق للرسائل الدموية، وهذا ما ينأى بها عن الحسم ويبقيها تحت النار في الوقت نفسه.