ايران والخاصرة القوقازية
عندما سألت احد الاصدقاء الايرانيين المعنيين الى حد ما بما يجري في منطقة القوقاز بين جمهوريتي ارمينيا واذربيجان من تجدد الاشتباكات والمعارك حول اقليم ناغورني قره باغ، عن الموقف الايراني من هذه التطورات وكيف تنظر طهران لما يحدث هناك، لم يتردد في التعليق بان ايران في موضع او موقف لا تحسد عليه، وحالتها تشبه الى حد كبير حالة "زوغزوان" التي يوجهها لاعب الشطرنج. اي ان ما تواجهه طهران وضعية يتعرض فيها احد اللاعبين لخسارة معينة لان مضطر الى تنفيذ نقلته التي يفضل ان لا يقوم بها ويُبقي على وضعيته الحالية. وواقع ان اللاعب مرغم على تنفيذ النقلة يعني ان وضعيته ستضعف بقدر معتبر، واي حركة ممكنة تجعل وضعيته اسوأ.
ووضعية "زوغزوان" هي في الأصل مصطلح يعود إلى العبارة الألمانية Zug "حركة" Zwang "إلزامية" بمعني أن تُلزم وتُجبر على فعل شيء.
وفي وصف الحالة الايرانية، وهي لا تقتصر او تقف عند حدود منطقة القوقاز وما يجري فيها من تطورات، بل يمكن تعميمها على جميع الملفات او الساحات التي تعتبر منطقة نفوذ او تورط لايران في منطقة غرب آسيا، وهي حالة لم يحصل ان مرت بها ايران منذ اربعين سنة على انتصار ثورتها واعلان الجمهورية الاسلامية وخوضها لمعاركها السياسية والاستراتيجية على رقعة شطرنج السياسات الدولية.
مع انفجار الاشتباكات والمعارك بين الجانبين الارمني والاذربيجاني في اقليم ناغورني قره باغ، تكشف حجم المصالح المتداخل والمتناقضة لعدد من اللاعبين الدوليين والاقليميين على مسرح منطقة القوقاز الجغرافية، وظهر التداخل في المصالح وتعارضها بين هذه القوى التي تتعامل مع هذا الاقليم كمنطقة نفوذ حيوي وجيواستراتيجي وجيوسياسي في مواجهة مشاريعها التوسعية والمصلحية والاستراتيجية. من الولايات المتحدة وروسيا واوروبا وتحديدا فرنسا وتركيا وايران واسرائيل، ويتداخل فيها القومي مع العرقي مع المذهبي مع الديني مع المصلحي في حالة تصارعية تزيد المشهد تعقيدا على كل اللاعبين في هذه الساحة.
ولعل الموقف الايراني من الازمة التي انفجرت في قره باغ بتوقيت غير مناسب، من اكثر الازمات ارباكا للقيادة في طهران التي لم تكن بحاجة الى ازمة جديدة تضاف الى ازماتها المتراكمة والمتشعبة، وامام صعوبة نجاحها في فرض خيار ثالث يقوم على الوساطة بين طرفي النزاع، خصوصا وانه بات واضحا ان امتدادات هذه المعركة لا تقف عند حدود النزاع على الحدود بين جاريها، بل يتعدها الى صراح جيوسياسي وجيواستراتيجي تتداخل فيه العوامل الاقليمية والدولية.
هذه التطورات وضعت طهران امام خيار صعب، أما ان تلجأ الى اعلان موقف مؤيد لحليفها الارميني للحفاظ على علاقة استراتيجية بينهما تمتد لعقود ماضية شكلت فيها ارمينيا قناة ساعدت النظام الايراني في الحفاظ على التواصل التجاري والاقتصادي مع العالم خارج دائرة العقوبات الدولية، وما في هذا الخيار من تعزيز لعلاقة التعاون الاستراتيجي بينها وبين موسكو بالاضافة الى توظيف ذلك في علاقة تعاون مع المخاوف الاوروبية خصوصا فرنسا والقلق الذي يرافقها من تزايد التوسع التركي في أكثر دوائر مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. وهذا الخيار يعني انها ستكون امام امكانية تفجير ساحتها الداخلية انطلاقا من تعارض هذا الموقف في حال ذهبت اليه مع الشعور القومي والمذهبي لشريحة اساسية ومقررة في النظام هي القومية الاذرية التي تشكل ثاني اكبر قومية في التركيبة الايرانية بعد القومية الفارسية والتي تمسك بمفاصل النشاطات الاقتصادية وحتى السياسية والعسكرية في تركيبة النظام، ما يعني ان تكون على استعداد لمواجهة تفجير ساحتها الداخلية في مرحلة يحاول النظام الامساك بالوضع الداخلي بعيدا عن اي تهديد داخلي بالترهيب والترغيب.
وليس اكثر من طهران تدرك الصعوبات الناتجة عن ازمة القوقاز، فعلى الرغم من الاستنفار الدائم والذي ارتفعت وتيرته في الايام الاخيرة للقوات العسكرية والامنية وخصوصا قوات مركز "عاشوراء" التابع لحرس الثورة والمكلف بالانتشار في اقليم اذربيجان الايراني، فان الدخول التركي المباشر والعلني على خط المعركة بين ارمينيا واذربيجان لصالح الاخيرة، يفرض على الجانب الايراني التمهل والتروي كثيرا في الذهاب الى خيار او موقف، خصوصا وان الذهاب الى المواجهة مع النفوذ التركي في هذه الخاصرة التاريخية يعني انها ستكون امام ضغوط داخلية بدأت بالظهور علنا وقد تشكل تهديدا حقيقيا، من خلال التظاهرات التي خرجت بين ابناء القومية الاذرية الايرانيين في المناطق المحاذية للحدود مع اذربيجان وفي المحافظات الاخرى التي تضم اكثرية آذرية، مطالبين بموقف داعم لاشقائهم في القومية والمذهب، وهو ما يهدد بامكانية تحول هذه التظاهرات الى حالة اعتراضية قد تجر الى مصادمات في الشارع لا يرغب النظام الايراني فيها وهو بغنى عنها في هذه المرحلة، خصوصا وان اي تفجير داخلي قد يفرض على طهران تقديم تنازلات للجانب التركي، وقد لا تقف هذه التنازلات عند حدود منطقة القوقاز، بل قد تستغلها انقره للحصول على تنازلات اخرى خصوصا في الملف السوري.
القيادة الايرانية وفي خطوة تبدو مدروسة وتهدف الى تهدئة الشارع الاذري الداخلي وقطع الطريق على تفاقم الامور ، سمحت لاربعة من ممثلي المرشد الاعلى وولي الفقيه في محافظات اذربيجان الغربية (السيد مهدي قريشي) واذربيجان الشرقية (السيد محمد علي آل هاشم) واردبيل (السيد حسن عاملي) وزنجان (الشيخ علي خاتمي) ذات الاكثرية من القومية الاذرية، ان يصدروا بيانا مشتركا يعتبرون فيه ما تقوم به حكومة اذربيجان لاسترجاع اراضي قره باغ هو عمل قانوني وشرعي وينسجم مع اربعة قرارات صدرت عن مجلس الامن الدولي في هذا الخصوص. وهو موقف يصدر عن بعد ايديولوجي عقائدي باعتبار الاشتراك في المذهب بين الاذربيجانيين والايرانيين من القومية الاذرية، كاشفين ان الجمهورية اسلامية قدمت دعما لباكو خلال الاحتلال الارمني لقره باغ ودافعت عن اذربيجان ووحدة اراضيها في المحافل الدولية. وبارك رجال الدين الاربعة ممثلي الفقيه الانتصارات الاخيرة التي حققتها القوات الاذربيجانية وترحموا على شهدائها الذين سقطوا في المعارك الاخيرة.
يقول الصديق الايراني ان غاري كسباروف يعتقد ان حالة "زوغزوان" هي من أخطر الحالات في لعبة الشطرنج، ان يكون اللاعب أبله وسيء الطالع ويضع نفسه في هذا الموضع الذي لا يمكن التراجع عنه، فهي حالة مدمرة وقاتلة، وقد تحصل مرة من مئة الف لعبة وتعتبر مؤلمة اكثر من اي نوع من أنواع الانتحار في الشطرنج.