الأسد: أنا أفضل من قبنض والنمر
في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي نشرت صحيفة أمريكية كبرى تقريراً عن شخصية سورية حلبية، ما أغضب سلطة الأسد التي وبّخت الشخصية المذكورة. وجه الغضب لم يكن في أن الصحيفة أمريكية، فخطاب العداء الإعلامي لأمريكا كان قد بدأ بالتراجع، وكان السفير الأمريكي أو الملحق الثقافي يقيمان حفلات استقبال لشخصيات سورية في دمشق وسواها من المدن الكبرى، ولم يكن سبب الغضب نقمة على الشخصية نفسها، فالأخيرة على صلة وثيقة بسلطة الأسد. السلطة الأسدية غضبت لسبب وحيد، هو أن الصحيفة الأمريكية امتدحت تلك الشخصية وأشادت بكفاءاتها، ولا يجوز إطلاقاً أن يكون هناك في مزرعة الأسد من يُشار إليه وإلى كفاءته، حتى إذا كان من ضمن العصابة نفسها.
لعل هذا المدخل يوضّح سبب ترويج مقاطع فيديو لعضو مجلس الشعب الأسدي "محمد قبنض"، كان آخرها قيام قبنض بابتزاز مجموعة من نازحي الغوطة، وإجبارهم على الهتاف باسم بشار الأسد لقاء تقديم الماء لهم. قبنض هذا، لمن لا يعرف، نجد أشباهاً كثراً له في الدراما المصرية التي أظهرت يوماً ما ابتذال شريحة التجار الذين ركبوا موجة الانفتاح الاقتصادي، وللتذكير كان النموذج الأثير في تلك الدراما هو التاجر أو المقاول شبه الأمّي، والذي تخلو لغته ولكنته من آثار التعليم والتشذيب، وتخلو أخلاقه أيضاً من أدنى أثر للتشذيب، ومع ذلك يمتلك سلطتي المال والسياسة، ولا يندر أن يجد سبيله إلى مناصب عليا نسبياً بسبب شراكته الاقتصادية مع السلطة.
الفكرة الأساسية هي أن هذا النوع من السلطة مغرم بالابتذال والدناءة والتفاهة، هذه ليست شتائم، هي الحقيقة التي تدل على جوهر الإجرام الأسدي. في مزرعة الأسد لا ينبغي أن يكون من حضور سوى لأولئك الذين يقارن الأسد نفسه بهم، فينتشي بالمقارنة ويقول: ما أروعني! قبل ذلك وبعده ينبغي أن يقيم سكان المزرعة المقارنة ذاتها، ليصلوا إلى النتيجة نفسها ويقولوا: ما أروعه!
الفيديوهات التي نُشرت لسهيل الحسن "النمر" تصبّ في الوظيفة ذاتها، فهو من العسكريين القلائل الذين يظهرون في الإعلام، وإثر شهرته ظهر في العديد من اللقاءات التلفزيونية، لا لشيء سوى لإظهار ركاكته اللغوية ودلالتها. ثمة رهان هنا على ألا يلاحظ المتلقي أن لغة النمر مشابهة للغة بشار الأسد عندما يخرج عن النص المكتوب، وأن هذه الركاكة المتعالمة والمتذاكية تستجلب تحليلاً من حقول معرفية أخرى سوى السياسة، وبالطبع الرهان في كل مرة على أولئك الذين يملكون استعداداً مسبقاً للإعلاء من شأن الأسد بالمقارنة مع بطانته، واعتبار هذه المقارنة هي الوحيدة المتاحة والممكنة.
هذا النهج ليس جديداً على تنظيم الأسد، فمخابرات الأسد الأب كانت تتولى نشر الإشاعات، أو تسريب وقائع لتعامله مع مسؤولين آخرين بغية تصغيرهم أكثر فأكثر. منها مثلاً أن إقالة عبدالرؤوف الكسم من رئاسة مجلس الوزراء أتت بعد تجرؤه على اقتراح اسم لمنصب وزير الدفاع، وهذا بمثابة خط أحمر لا يُسمح لأحد بتجاوزه. منها أيضاً أن حافظ الأسد غضب من رئيس الوزراء الأسبق عبدالرحمن خليفاوي لأنه تحدث من دون أن يَطلب منه في مباحثات أجريت في الجزائر في عهد الشاذلي بن جديد، وأثناء عودة الوفد في الطائرة قال الأسد مخاطباً أعضاء الوفد: عبدالرحمن يظن نفسه رئيس وزراء مثل مناحيم بيغن. حسب الرواية، التي لا يُعرف مدى دقتها، يُفترض أن أعضاء الوفد قد ضحكوا من هذه العبارة بدل الضحك من أنفسهم.
لا غرابة في أن ينسحب هذا السياق على مجمل الحياة العامة في سوريا، فالبلد الذي كان لشعرائه مساهمة أساسية في حركة الشعر العربي بقي هؤلاء الشعراء خارج الاهتمام الإعلامي في بلدهم، بمن فيهم شعراء اصطفوا لاحقاً مع تنظيم الأسد ضد الثورة، والوحيد الذي كان له حضور إعلامي خلال سنوات "شاعر" شعبي أفضل ما قد يناله من تصنيف نقدي درجة "قوّالٍ". البلد الذي يمتلك تراثاً غنائياً غنياً انحدر مع حكم الأسد ليحتكر دائرة الضوء صغار متملقون يغنون في حب "القائد"، والإعلام بعمومه صار حكراً على موظفين عديمي الكفاءة، يسعون أيضاً لتعميم التفاهة كي يتربعوا على عرشها بوصفهم الأفضل. يمكن ملء مجلدات بوقائع تخدم هذا السياق، مختصرها تصوير الأسد في القمة بينما ما تبقى من السوريين في الوادي.
هكذا يمكن مثلاً مقارنة سلوك بشار، عندما ذهب إلى مشارف الغوطة برفقة أعلام الصليب الأحمر الدولي، وسلوكه المتزن مع النازحين قياساً إلى سلوك قبنض، حتى إذا كان الأول يتحسر ضمناً بسبب عدم إبادتهم جميعاً. وهكذا يمكن مقارنة سلوك بشار بالنمر، فهو صاحب الكلمة الأعلى في الوحشية والإجرام الذي تعرض له السوريون، وفي عيون مؤيدي الإبادة يُفترض إظهار الفارق في الكفاءة بينهما، وإظهار النمر كأداة لا تملك عقلاً كالذي يملكه الرأس المدبّر.
وإذا كان هذا الخطاب موجّهاً في المقام الأول لمؤيدي الأسد فهو أيضاً بات موجّهاً للخارج، وربما للحلفاء قبل الخصوم. نذكر هنا ما نُقل من استياء روسي بسبب تفاهة وابتذال وفد الأسد إلى مؤتمر سوتشي، فتركيبة الوفد وأداؤه، اللذان من المؤكد أن أجهزة المخابرات أشرفت عليهما، قُصد بهما أن يكونا في منتهى التفاهة، وأن يشبها راقصة من الدرجة الثالثة، بالمعنى الشوارعي للكلمة لا بالمعنى النبيل لفن الرقص. الدافع في كل الأحوال هو القول أن تنظيم الأسد، الذي يُراد الحفاظ عليه، لا يملك رأساً يمكن قبوله سوى الرأس الحالي، وأن باقي الجسد هو أسوأ بكثير من الرأس؛ إن المفاضلة تنتقل هنا من "أنا أفضل من داعش" إلى "أنا أفضل ما في عصابتي كلها".
من صميم النهج الأسد هذا يتناسل ذلك التركيز على شخصيات معارِضة، فالأسديون المعلنون والمتنكّرون وجدوا أسهل طريقة للنيل من الثورة هي التركيز على شخصيات معارضة للتعمية على أحقية السوريين بالحرية. الغرض من التصويب على شخصيات معارضة كان دائماً يضمر القول أن هذه الشخصيات سيئة بما يكفي كي لا تكون بديلاً للأسد، وفي أحسن الأحوال القول بأنها على درجة من السوء توازي سوء الأسد، ولا مبرر تالياً لاستبدال السيء بالسيء. أصحاب هذه المقولات لن يتورعوا، عطفاً على ما سبق، عن تحميل المعارضة مسؤولية الإبادة التي ارتكبها الأسد. هذا بالطبع مختلف عن نقد محقّ يطال عمل المعارضة ككل، كهيئات أو أفراد، مع الاحتفاظ بحق السوريين في التغيير، وأهم من ذلك: مع التركيز على أن غاية الانتقال ليست استبدال أشخاص بأشخاص وإنما حصول السوريين على حقهم باختيار من يشاؤون لتمثيلهم.
من النهج نفسه أيضاً يتناسل ذلك التشهير بأي سوري حصل على فرصة ما في بلاد اللجوء، فبحسب المضمر ينبغي أن يبقى السوري كما كان في مزرعة الأسد، محروماً من حقه في المنافسة، ومحروماً من الحصول على أية فرصة. المعيار الذي لا يُعلن صراحة هو سوريا الأسد، المزرعة التي تُحتكر فيها الفرص للصغار فحسب، بينما يغيب المعيار المنطقي الذي ينص على أن ذهاب بعض الفرص إلى الأقل كفاءة يبقى عادلاً ما لم يكن على حساب مستحقيها من الأكثر كفاءة، والعبرة هنا في وفرة الفرص لا في التقليل منها وجعلها حكراً على من لا يستحقها.
يستطيع الأسديون، المعلنون منهم والمتنكرون، استهجان ابتزاز محمد قبنض نازحي الغوطة بشربة ماء، أو حتى الضحك سراً من اللغة الركيكة للنمر، فهذه هي مساحة الحرية المعطاة لهم من الأسد نفسه. أما أن يضحكوا من أنفسهم وهم يرون قادتهم عسكراً ومدنيين على هذا النحو من الابتذال المنسجم تماماً مع الجريمة الأسدية، أو أن يروا أنفسهم جديرين بمن يمثّلهم أفضل، وعلى الأخص أن يروا أنفسهم جديرين باختيار ممثليهم، فهذا التفكير فيه شبهة ثورة.. حاشا وكلا.