الإسلام "العلماني" بدل البعث
قام مفتي سوريا أحمد بدر الدين حسون ، أواخر الشهر المنصرم ، بزيارة إلى روسيا أثار خلالها غضب المراجع الدينية للمسلمين الروس ، إثر انتقاداته الساخرة لمقاربتهم لبعض المقولات الدينية . وبعد رحلة قام بها إلى تترستان ، زار خلالها متاجر "سوبر ماركت الحلال" للسلع والمواد الغذائية ، خرج المفتي ، في لقاء مع طلاب جامعة الصداقة في موسكو ، بانتقادات لاذعة سخر فيها من فكرة مثل هذه المتاجر . ونقلت عنه نوفوستي قوله ، بأن مثل هذه المتاجر كأنها تقول للمسلم بأن كل الشعب الروسي يتناول أطعمة محرمة ، بينما "هو وحده يتناول الطعام الحلال".
ونقلت صحيفة "kommersant" المستقلة في طبعة مدينة قازان ، عاصمة تترستان ، عن المفتي قوله ، بعد أن شاهد في أحد هذه المتاجر سمكة "حلال" ، بأن مثل هذه السلعة لا يمكن لها أن توجد ، لأن السمكة تُصطاد ولا تُذبح . وبعد أن ذكَّر المفتي بمحرمات الإسلام من الخمرة والخنزير والحيوان النافق ، قال بسخرية لاذعة "يبدو أننا سوف نرى قريباً مما نتناوله عنباً وبرتقالاً حلالاً".
لم يكتف المفتي السوري بالسخرية من متاجر "الحلال" التترية هذه ، وتأويل مقولة الحلال لدى المسلمين الروس ، بل تعرض لموضوعة البنوك الإسلامية ، وأعلن وقوفه ضدها ، لأنها يمكن أن "تقسم المجتمع وتفضي إلى الحرب" . فالهدف من إنشاء البنك الإسلامي، على قوله " هو تقسيم المجتمع ، وفكرته هي حجة لكراهية الآخرين ، هي حجة للقتل ". وقد جاءت تهجمات المفتي حسون على البنوك الإسلامية في الوقت عينه ، الذي كان فيه الرئيس التتري رستم مينيخانوف يتسلم في الإمارات العربية المتحدة من ولي العهد في إمارة دبي جائزة "مركز دبي لتنمية الإقتصاد الإسلامي" على إنجازاته في حقل تطوير الإقتصاد الإسلامي.
أثارت انتقادات المفتي حسون حفيظة المراجع الإسلامية في تترستان ، التي ردت عليها بنبرة مؤنبة ، قائلة "أن الحلال ليس مادة للتفكه والسخرية . فهذه يمكنها أن تؤدي في بلادنا حتى إلى إهانة المسلمين" . وقال رئيس هيئة إدارة شؤون المسلمين في الجمهورية كميل سميحللين ، بأن المسلمين الروس يعيشون في ظروف مختلفة كليا عن تلك ، التي يعيش في ظلها السوريون.
انتقادات المفتي حسون لمتاجر "الحلال" والبنوك الإسلامية لم تثر استياء المرجعيات الإسلامية الروسية فقط ، بل لفتت انتباه الأوساط الأكاديمية المتابعة للشؤون الإسلامية ولتطور الأوضاع في سوريا ، والتي بنى عليها البعض من هذه الأوساط إستنتاجات مثيرة للجدل . فقد كتب كل من كيريل سيميونوف وأنطون مادراسوف، الخبيران في المجلس الروسي للشؤون الخارجية ، مقالة مشتركة في صحيفة "NG" الروسية تحت عنوان "لماذا تراهن روسيا على بشار الأسد" ، يستنتجان فيها أن "دمشق تستبدل الأيديولوجية البعثية بمذهب "الإسلام العلماني".
يقول الكاتبان ، أن ملاحظات المفتي حسون الحليف لبشار الأسد ، قد أثارت دهشة حتى أولئك المسلمين البعيدين عن الأصولية ، وعكست بوضوح تشكل مذهب "الإسلام العلماني" في سوريا . ويمكن لهذا المذهب أن يصبح النموذج الأيديولوجي ، الذي يتوحد حوله أنصار النظام السوري ، في ظل الأيديولوجية البالية لحزب البعث . والقيادة السورية لا تتحدث في العلن عن أن الأيديولوجية السابقة قد استهلكت نفسها ، إلا أن العاملين الحزبيين ، ومنذ فترة بعيدة ، يدقون ناقوس الخطر ، الذي يشتد كلما اقتربت الحرب من نهايتها.
مع اقتراب العمليات العسكرية من نهايتها في سوريا ، وبدء اللاعبين الخارجيين الحديث عن ما يشبه عملية تسوية سياسية، تصبح مسألة استقرار نظام الأسد اكثر إلحاحاً . وعلى الرغم من الإعلان المتكرر عن ضرورة الإصلاحات ، إلا أن دمشق المدعومة من روسيا وإيران ، غير مستعدة للتسويات ، ولن تأخذ إلا برأي تلك المعارضة ، التي كانت دائماً موالية لها ، و"العميلة" في حقيقتها . ولا يزال النظام السوري يطلق على ما جرى في البلاد "عدواناً" ، "أزمة" و "حرباً على الإرهاب" ، ولا يعترف بالطبيعة الأهلية للصراع ، ويحاول العودة إلى الماضي ، متجاهلاً مسببات الربيع العربي.
إلا أن ممثلي حزب البعث الحاكم يعترفون على الهامش ، أن النقص في الكادرات وعدم ملاءمة الأيديولوجية الراهنة لحقائق الواقع ، يضعان قنبلة موقوتة أخرى تحت سلطة الطبقة الحاكمة . وعلى الرغم من العيوب الواضحة لأيديولوجية البعث الفضفاضة والقمعية في جوهرها ، إلا أن السلطة تقود المجتمع إلى حالة يصبح معها مستحيلاً أي بديل غير مؤلم للنظام السابق في حال سقوطه . لقد تعرضت أيديولوجية القيادة السورية خلال فترة الصراع إلى تغييرات كبيرة ، وهي تقوم حالياً على نظرية توفيقية تترافق فيها العلمانية الإستعراضية مع الخطاب الإسلامي . وقد أدت المبالغة في استخدام مثل هذه النظرية التوفيقية إلى تعريفات صارخة في تناقضاتها مثل تعريف المفتي حسون نفسه بأنه "المفتي العلماني".
في سياق هذا "المذهب التوفيقي" ، على قول الكاتبين ، جرى ، وبشكل واع على الأغلب ، اعتماد نهج للتقريب بين الشيعية والسنية قي الإسلام ، وهو نهج يصب في صالح إيران ، التي تقوم بعملية تشييع متواصلة في سوريا . بل لم يقتصر الأمر على التقريب بين السنية والشيعية فحسب ، بل اعتمد نهج التقريب هذا أيضاً بين الإسلام والديانات الأخرى ، التي يعيش أتباعها في سوريا . ومن اللافت أن هذا المذهب يقوم في أساسه على الولاء الشخصي للأسد . ويبرز ذلك بوضوح ، على سبيل المثال ، في خطابات قائد فرقة "قوات النمر" سهيل الحسن ، الذي ساوى الأسد بالنبي محمد . فالتشكيلات الموالية للأسد تستخدم في معاملاتها الداخلية الخطاب المميز للجهاديين أو للفصائل الموالية لإيران ، إذ يطلقون على قتال الأسد ضد أعدائه تسمية "جهاد" ، ويسمون من يُقتل في الحرب "شهداء" ، بغض النظر عن انتمائهم الديني.
ويخلص الكاتبان ، اللذان لا يمتان ، مع الصحيفة ، بصلة إلى معارضة الكرملين وحربه السورية، إلى التأكيد بأن النهج المذكور للقيادة السورية يعمق أكثر الهوة الفاصلة بين الجهات المتصارعة في سوريا : الشرائح العليا العلمانية ومتعددة الإنتماء الديني في المدن ، وسكان الريف السنة المحافظون . ولا يمكن لسلوك السلطات السورية هذا إلا أن يثير الرفض لدى الطرف الأخير ، بل والذي يعتبره تشويهاً للدين.
إن مثل هذا الوضع لا يخلق فقط وهماً بالسلام في سوريا ما بعد الحرب ، بل ويخلق ، حسب الكاتبين، فراغاً يستطيع الدعاة الراديكاليون ملؤه ، وأخذت تستخدمه الخلايا المتخفية للدولة الإسلامية.