لماذا اغتالوا خاشقجي وتركوا المعارضين الحقيقيين؟
خاشقجي، ليس معارضا، وقد كان حريصا على ألا يوصف بهذه الصفة، إنما هو صحافي ومثقف سعودي إصلاحي قريب من دوائر السلطة، اختلف معهم فلم يتحملوه وقتلوه، فيما لم يفعلها السيسي، مثلا، مع معارضين حقيقيين، فعلها السعوديون مع مهادن ولم يفعلها السيسي مع خصوم شرسين.. كيف؟!
ما سبق ليس كلامي، إنما هو خلاصة آراء آخرين، دارت بيني وبينهم مناقشات حول خاشقجي في العالمين الافتراضي، والحقيقي، إن كان ثمة ما يمكن وصفه بالحقيقة أو نسبته إليها، أغلب المتابعين، من المحسوبين على الربيع العربي، خطابه، وسياساته، خاصة في الخارج، لا يَرَوْن في خاشقجي معارضا حقيقيا، (مثلهم طبعا)، فهو لا يصرخ في وجه العائلة السعودية الحاكمة، ولا يتهمهم بالعمالة والخيانة، ولا يطالب صراحة بإسقاطهم، لا يطرح رأيه عبر البوستات الساخنة ومقاطع الفيديو النارية، ولا يبالغ في معارضته للنظام الحاكم في بلاده إلى درجة الكذب والتهويل والمبالغات غير المعقولة وغير المنطقية، تلك التي تثير جماهير مواقع التواصل، وترفع الإدرينالين لدى الشباب الراديكالي من مختلف التيارات وتكسب صاحبها صفة المعارض الحقيقي، والمناضل والبطل، فضلا عن آلاف المتابعين، والأولتراس، الذين ينصرون كاتبهم ظالما أو مظلوما، ويدفعونه للمزيد من الصراخ واللطم والطقوس الكربلائية، التي أضحت "النموذج" الذي يقاس عليه معارض الخارج!
ومع انحياز المناقشين لحق خاشقجي، وتحريمهم لدمائه، وتضامنهم معه، إلا أنهم يتوقفون أمام السؤال: لماذا فعلتها السعودية مع كاتب "غلبان" ولم تفعلها مع من يسبونها ليل نهار على قنوات مصرية وسورية ويمنية، وجرائد ومواقع الكترونية، وينالون من هيبتها، وملكها وولي عهده وحاشيته؟ لماذا ضربوا المربوط ليخاف السايب، كما يقول المثل المصري، ولم يقطعوا عرقا ويسيحوا دما، كما يقول مثل آخر أقرب لواقع الحال؟
أتصور أن واقعة خاشقجي، وغيرها، تدفعنا إلى مراجعة الكثير من مفاهيمنا عن المعارضة (الحقيقية)، فضلا عن تصوراتنا عن أنفسنا، ومدى أهميتنا وفاعليتنا، والفارق الهام، والمفصلي، بين المعارضة لتسجيل الموقف، بالصراخ والعويل والوقفات الاحتجاجية، واستمارات التضامن وكوبونات الصداقة بأثر رجعي لخاشقجي، طلبا لتمويلات العزاء، وتحويلات تطييب الخواطر، وبين المشاركة في إحداث تغير حقيقي، وتحمل فاتورة المزايدات والخصومات السياسية والشخصية من الجانبين، معارضو "اللقطة"، والأنظمة الحاكمة على حد سواء ..
كان خاشقجي، كاتبا هادئا، أقرب لدوائر السلطة منه للمعارضة، ظاهريا، نعم، لكنه كان يعرف بلاده، أكثر من نقاده، ونقادها، من نشطاء الربيع العربي، ويعرف نوعية الخطاب الذي يمكن أن يساهم في إحداث تغيير حقيقي، وليس مجرد استعراض العضلات النضالية، طلبا للمديح والإطراء، كان خاشقجي مقلقا أكثر من غيره لأنه الأعقل، والأذكى، والقادر على الانتقال بفعل المعارضة من الثوري إلى السياسي، لا الخطابي، صاحب التأثير في الداخل السعودي، وفي الدوائر الغربية، على حد سواء، صاحب الصداقات الممتدة من المحيط إلى الخليج، بمعارضين، صحفيين، وباحثين، وحقوقيين، وقادة رأي، وصاحب التحالفات مع أجنحة داخل العائلة المالكة السعودية، صاحب الوعي والإدراك بطبيعة المعركة، إمكاناته بالمقارنة بإمكانات خصمه، وحدود قدراته ككاتب ومثقف وإعلامي، وكان النظام السعودي يرى ذلك ويعيه، ويدرك مدى تأثيره وخطورته، تماما كما ترى الأنظمة في بلاد مثل مصر واليمن وسوريا حدود تاثير معارضيها بالخارج فلا تعبأ بهم كثيرا ..
لقد أنتج الربيع العربي ثلاثة أنواع من المعارضين: مثقفون نخبويون، يتحدثون مع بعضهم البعض في دوائرهم المغلقة عليهم، وينشرون بحوثهم ومقالاتهم التي لا يقرأها سوى أصدقائهم ورفاق نضالاتهم، ولا يؤثرون في السواد الأعظم من جماهير الثروات العربية لأن أحدا لا يفهم لغتهم الأكاديمية ولا مصطلحاتهم المعقدة، فهم على عمقهم وقوة تكوينهم العلمي والفكري يعانون من الجفاف الجماهيري ومحدودية التأثير. أما النوع الثاني فهو النوع الذي يخصم من رصيد أي قضية يتصدر لها، ويتحول إلى عبء على قضيته من حيث أراد أن يكون سندا لها، المعارض الغاضب، الجعجاع، الذي تستخدمه الأنظمة مرتين، مرة لإثبات أهليتها وانعدام أهلية منافسيها، في الداخل والخارج، وأخرى للتنفيس عن مشاعر الغضب لدى قطاعات كبيرة من الشعب بدلا من أن يؤدي تراكم الغضب الشعبي إلى فوران وثورة، فتصبح مهمة المناضل الغاضب احتواء الغضب واستيعابه وإخماده إلى الدرجة التي يظن معها بعض المراقبين، وليس كل الظن إثماً، أن ثمة تنسيقاً بين الأنظمة التي قامت ضدها الثورات وبين قطاع من هذا النوع من المعارضين!
أما النوع الثالث، فهو النوع الأكثر خطورة، ذلك الذي يمتلك وعي المثقف، ولغة الصحافي، في سلاستها، وقدرتها على النفاذ والانتشار والتأثير، وهذا النوع، غالبا ما تغلق أمامه نوافذ التأثير، وحين يستطيع أحدهم أن يجد مخرجا، ليكتب في الداخل والخارج، ويقول كلمته، مثلما فعل جمال، رحمه الله، ويظهر على الشاشات، بل ويسعى لتأسيس محطته التلفزيونية الخاصة، فهو، مهما بدا هادئا، ومهادنا، وإصلاحيا، لا ثوريا، أخطر على الأنظمة الاستبدادية من ألف مثقف أكاديمي متعال بوعيه ولغته، وألف ناشط أو متثور ساخط صاخب لا يملك غير الخطب المنبرية!
هذا الصنف، مقتول أو مسجون، سواء في السعودية، أو في مصر، التي سجنت مؤخرا الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق لأنه استطاع الإجابة، بسهولة وعمق، على سؤال الفقر، وأثبت لقرائه في كتابه "هل مصر بلد فقير حقا؟"، أن مصر بلد غني منهوب، يعاني من سوء إدارة ثرواته، وتوزيعها، فيما تركت، مصر نفسها، أو بالأحرى النظام المصري، عشرات المعارضين المدججين بالشاشات، يسبون السيسي ورجاله ليل نهار، ويشنعون على عساكره وإعلامه ومؤسساته وأزهره وكنيسته، ويلعنون مؤيديه، من طبقة الحكم والسلطة والمال، من دون أن يتعرض لهم أحد بسوء، بل على العكس، يمنحهم دائما مبررات البقاء والاستمرار، ذلك لأنهم جميعا، ليس فيهم "جمال خاشقجي".