التضحية بفلسطين
في زيارته إلى فلسطين المحتلة يوم 23/5/2017 حمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب معه شريط فيديو يحتوي على مقاطع من تصريحات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، عرضه الإسرائيليون عليه خلال زيارته للقدس، تنطوي على تحريض على العنف وتأييد لعمليات الطعن التي ينفذها شباب فلسطينيون، ليثبتوا له عدم صحة ما طرحه الأخير خلال زيارته للبيت الأبيض يوم 3/5/2017 حول موقفه من "السلام" ومحاربته للإرهاب،. وقد شكل محتوى الشريط مادة الجلسة التي جمعت الرجلين في رام الله حيث انبرى ترامب بتوبيخ عباس واتهامه بالكذب والخداع.
لم يكن تفنيد الشريط صعبا وقد اكتفى عباس بمطالبة ترامب بالعودة إلى أجهزة المخابرات الأميركية للتأكد من سلامة الشريط ومن خضوعه لعملية مونتاج دقيقة حرفت المضمون، لكن المناورة الإسرائيلية نجحت في إفشال اللقاء وإجهاض فرصة مناقشة اقتراحات محددة لحل الصراع.
غير أن تجاوز "مطب" شريط الفيديو والتحريض الإسرائيلي على عباس لم يعد الدفء إلى العلاقة بين السلطة الفلسطينية والإدارة ويشق الطريق أمام المفاوضات، فقد اقتصرت المفاوضات التي أجراها المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر، صهر ترامب، خلال زيارته إلى رام الله ولقائه مع رئيس السلطة الفلسطينية يوم 21 الجاري والمطالب التي حملها معه، على مناقشة قضية الرواتب التي تدفع للأسرى وأسرهم، والتعويضات التي تقدم لأسر الشهداء من "صندوق الشهداء" بالإضافة إلى الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، لا حديث عن وقف الاستيطان ولا عن حل الدولتين، ولا عن النقاط التي أفشلت مفاوضات طالت سنوات: الحدود، الترتيبات الأمنية، اللاجئون، والقدس.
ارتبطت المقاربة الأميركية الجديدة بعوامل أميركية وإسرائيلية وعربية. فالإدارة الأميركية الجديدة، الابنة الشرعية لزواج الواسب، الانكلوسكسون البيض البروتستانت، والمحافظين الجدد، هي الأقرب إلى الموقف الإسرائيلي، تتحدث عن "سلام" إسرائيلي - فلسطيني من دون تحديد طبيعة الحل وخطتها للوصول إليه، خاصة وأنها لم تعلن التزامها بحل الدولتين، ناهيك عن تعاطفها مع سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وتبنيها الموقف الذي سبق وتبنته إدارة بوش الابن في تعاطيها مع الطرف الفلسطيني: الإصرار على الإصلاحات الداخلية على كافة المستويات، من مكافحة الفساد وقمع التحريض إلى وضع حد "للعادة الشائنة المتمثلة بدفع تعويضات للإرهابيين وعائلاتهم" وفق تعبير روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن. الحكومة الإسرائيلية، الأكثر يمينية وعنصرية في تاريخ دولة إسرائيل، تتمسك بسلم أولويات يجعل الوصول إلى اتفاق في حكم المستحيل، من جهة، وتتحرك على الأرض عبر الاستيطان النشط لتقويض فرص قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة من جهة ثانية. العامل العربي والتغير في الرأي العام العربي الرسمي والشعبي، التغير الأخطر في المشهد، لجهة تحديد العدو، الذي ترتب على الدور الإيراني التدميري في دول المشرق العربي ومشروعها للهيمنة والسيطرة، باعتبار إيران العدو القومي للعرب، ما وضع دولا عربية، السعودية والإمارات العربية المتحدة، في موقع واحد مع إسرائيل، وجعلها تتقبل التعاون والتنسيق معها لمواجهة الخطر المشترك: إيران، في مقابل التزام أميركي بالتصدي للأخيرة، وطرح فكرة تشكيل "ناتو" عربي لمواجهتها، وهذا أفسح الطريق لتحرك أميركي إسرائيلي باعتماد نهج "من الخارج إلى الداخل"، أي إعطاء دور أكبر للدول العربية في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في عملية إقليمية "من شأنها أن تخلق اتفاقا كبيرا للوصول إلى "السلام"، وفق تصريح الرئيس الأميركي ترامب، وهو ما اتفق عليه في قمم الرياض مع الرئيس الأميركي.
لن يقود نهج "من الخارج إلى الداخل" إلى ضرب مركزية القضية الفلسطينية فقط بل سينهيها بما هي حركة شعب نحو استعادة حقوقه وتشكيل كيانه الوطني وفق مقتضيات الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة. فقد عكست تحركات دول عربية بعينها خطورة ما يتم العمل عليه من خلال تحركها لإعادة صياغة التحالفات والتوازنات الفلسطينية، رعاية مصر والإمارات قيام تحالف بين حماس ودحلان في غزة، الترويج لإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة، نشرت وسائل إعلام عربية وأجنبية أنباء عن مقترح مصري لتوسيع مساحة قطاع غزة بإلحاق أراض من سيناء به، تمهيدا للتخلي عن الضفة الغربية التي تتمسك بها إسرائيل كونها أرض الميعاد، والعمل على استدراج حماس للقبول بالفكرة عبر تعزيز موقفها في صراعها مع السلطة الوطنية عبر مدها بوقود مصري لتشغيل محطات توليد الكهرباء، ومنحها فرصة التحرر من الضغوط المالية عبر الحصول على فارق السعر من بيع الوقود للمواطنين والحصول على قيمة الكهرباء التي يستهلكونها، ثمة مؤشرات على تطلع حماس لإقامة دولة فلسطينية في القطاع وتسويق الفكرة وتبريرها بالقول بتحرير جزء من فلسطين وترك تحرير البقية للأجيال القادمة، سبق للقيادي فيها الدكتور محمود الزهار وأعلن عن فرصة لإقامة إمارة إسلامية نموذجية في القطاع.
في ثمانينات القرن الماضي كان التنافس بين أبناء غزة والضفة في أوساط منظمة التحرير الفلسطينية على أشده انتشرت طرفة تقول بإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة، ولما شكك الضفاويون بإمكانية نجاح المشروع، على خلفية عدم توفر إمكانيات مادية في القطاع لذلك، رد الغزيون بقولهم:" سنبيع الضفة قطعة قطعة ونصرف على المشروع".
يبدو أن مباركة دول عربية لنهج "من الخارج إلى الداخل" سيبيع الضفة دفعة واحدة.