المحاصصة النيابية في جدل بيزنطي
يومياً يخرج علينا زعيم أو "مسؤول" أو وزير، ليطلعنا على آخر مواقف حزبه حول قانون الإنتخاب الجديد. يومياً أيضاً تضخّ "المصادر" تفاصيل جديدة، أو قديمة، عما توصل إليه هذا الطرف أو ذاك، بالإتفاق مع حليف أو خصم، حول آخر التطورات: قانون نسبي كامل، جزئي، نسبي نسبياً... قانون الستين، معدلاً هنا، ثابتا هناك، إلى ما هنالك من تعبيرات لا يفهم منها المواطن حرفاً، وكأن المقصود أن لا يستوعب أحد "عمق" هذا الجدل، أو كأن المسؤولين أنفسهم لا يفهموه، أو ليسوا مضطرين لأن يفهموه، طالما هناك ماكينة جاهزة، نشيطة، منظمة، قادرة وحدها، بفضل إختصاصييها في الحساب وفي جماهير الطوائف، أن تفهم معنى أشكال النسبيات المطروحة على "النقاش".
وليس من الضروري الفهم، أيضاً، طالما ان هذا الجدل "الفقهي"، يُراد له ان يكون بيزنطياً من النوع النادر: لا طرفان يتناظران، إنما أطراف، تزيد عن الخمسة... خمسة أطراف تحاول "إقناع" الأربعة الباقية بـ"اقتراحات القانون" التي لديها، من دون ان يتنازل طرف لآخر... الغموض الذي يكتنف مشاريع القوانين هذه، واستعصائها على الفهم، قد تكون واحدة من معايير قياسنا لجدية هذا "النقاش" أو عدم جديته. سبقه قياس آخر أقرب إلينا، أو أكثر وضوحاً: تأليف الحكومة الجديدة، التي جرت على وقع سباق تحاصصي صريح، يلامس الوقاحة: هذا يريد الوزارة "الأدسم"، التي تدرّ عليه أرباحاً، وذاك يعترضه، لأنه "أثقل" منه، ويحق له حصة تكون من وزنه أو موقعه في "المعادلة"، أو دوره "البنّاء" في التحالفات. كما شاهدنا طوال أشهر التأليف من دون إدعاء نزاهة، ولا تفاني في خدمة المواطن. وحده الأقوى من بينهم، "حزب الله"، تعفّف، لأنه الأقوى تحديداً، أي متحكم بمجريات اللعبة. والنتيجة ان المحاصصة الوزارية، الصادقة، العلنية في نواياها، تليها الآن محاصصة نيابية خبيثة، تتلطّى خلف جدل كاذب.
وزارة شُكّلت بالمحاصصة المحْضة، هل يمكن لأطرافها ان تناقش القانون الإنتخابي على أساس آخر؟ يعني، ان تتجرّد هذه الأطراف فجأة من شهواتها الحكومية، لتنضم الى "مسيرة" القانون "الأكثر تمثيلاً" أو "عدلاً"؟ ولمن التمثيل؟ الجواب الأكثر من بديهي: محاصصة في تشكيل الحكومة، يعني محاصصة في تشكيل المجلس النيابي، الذي لن يكون جديداً.
قياس ثالث، يعوِّض عن قلّة فهمنا لهذا الجدل حول القانوني الإنتخابي. كلمات مشتركة بين جميع الأفرقاء، على تنوّع مشاربهم السياسية: كلمات من نوع قانون يحافظ "على مصالح الجميع"، يؤمّن "عدالة التمثيل"، أو "التمثيل الصحيح"... الخ؛ هذا الكلمات، هل تعني مصالح الأستاذة الثانويين مثلاً، أو مصالح البيئة؟ أو السير؟ الأمن؟ الكهرباء، أو الماء؟ لكي لا نتكلم إلا عن الأمور "غير المصيرية"، التي أعلن أركان الحكم عن إنكبابهم عليها، طالما انهم عاجزون عن التعاطي بالشؤون المصيرية؟
كلهم اتجهوا نحو "تطمين" الكبار من بينهم، من انهم سوف يحافظون على "تمثيلهم" لطوائفهم؛ وإذا دقّقت في تفاصيل ذاك "التمثيل"، سوف تجد أنه يتعلق بخسارتهم لنائبين هنا، أو نائباً هناك. فيما المتضررون الحقيقيون ليسوا ممثلي العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، إنما من أطراف سلطوية أخرى، أحزاب او شخصيات، تجد في "القوانين" المقترحة، مساَ بحصتها، بعدما حُرمت من حصص الوزارة. شخصيات وأحزاب كانت ذات يوم شريكة في السلطة، تجد نفسها اليوم خارج المحاصصة النيابية الجديدة، التي ترتدي الطابع المهيب لـ"نقاش حول القانون الجديد للإنتخابات".
وأنتَ، حتى لو لم تفهم تماماً تفصيل القوانين الجديدة المتداولة، إلا انك لا يمكنكَ التغاضي تماماً عن طبيعة هذا "الحراك" الذي يريد لنفسه أن يكون جدلاً بيزنطياً. فبما ان "العهد" جاء توافقياً، و"حكومة إتحاد وطني"، فلا يمكن أن يشتغل أطرافه إلا لـ"مصلحتهم"؛ أي ان يعتمدوا القانون الذي يحفظ بقاءهم: بقانون "الستين"، الموصوف بـ"البالي"، أو بغيره من القوانين "الأكثر عدلاً". و"الأكثر عدلاً" هذه تعني ان القتال دائر حول نقطة محددة، أوضح من القوانين المؤازرة لها: كيف يخرج كل زعيم طائفي بنفسه وبأهله، اكثر هيمنة على الطائفة التي "يمثل"؟ كيف يخرج ظافراً، بمحدلته الخاصة، تماهياً مع الطائفة الأقوى، الشيعية، السباقة في إطلاق الهيمنة على طائفتها؟ فلا تهتم كثيرا بالقوانين، جديدة أم قديمة، إلا بقدر ما تدعم مقلّديها من الحلفاء. ومع ذلك، ثمة شائبة، ثمة قطْبة غير مخفية، مفتاحها هو التهديد المبطن "إما قانون الستين او التمديد"... وكأن اي قانون معتمد لن يكون تمديداً للمجلس السابق، مع "تعديلات"، سوف يتم تضخيمها إعلامياً، لن تؤخره في تكريس سلطته النهائية على الشعب اللبناني، بعدما لبى نداء الواجب المقدس، فأجرى الإنتخابات.
ولكنهم في النهاية سوف ينجحون في الإتفاق على التجديد لأنفسهم، دون ان يتمكنوا من حلّ معضلة مكبّات النفايات، إلا بقتل الطيور... وهذه طليعة مفاخر "حكومة الوحدة الوطنية"... عفواً "الفساد الوطني".