دروس من الثورة السورية الكبرى
بين الثورة السورية الكبرى 1925 وثورة الحرية والكرامة 2011 اكثر من وجه شبه ان من حيث شمولهما او من حيث عنف رد السلطتين على الثوار او من حيث نتائجهما المباشرة. والاهم وحدة الهدف: التحرر في الاولى من الاستعمار وفي الثانية من الاستبداد.
جاءت الثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي (1925 - 1927) على خلفية يأس الوطنيين من مراوغة المندوب السامي الفرنسي، طوال خمسة اعوام، ورفضه عقد اتفاق يحدد العلاقة بين سلطة الانتداب والدولة السورية ممثلة بالقوى الوطنية(حزب الاستقلال العربي الذي اسسه شكري القوتلي عام 1920وحزب الشعب الذي اسسه الدكتور عبدالرحمن الشهبندر عام 1922)، ويضع جدولاً زمنياً لوحدة سوريا واستقلالها، ما دفع القوى الوطنية الى البحث عن بديل للمفاوضات يجبر المحتل على الرضوخ للمطالب الوطنية فُطرح خيار الكفاح المسلح، وكانت ثورة جبل العرب بقيادة سلطان باشا الاطرش، التي انطلقت في شهر تموز 1925، فرصة لتصعيد الكفاح ضد المحتل فقررت القوى الوطنية مؤازرة الثورة واتفق الطرفان، بعد اختيار الاطرش قائدا عاما للثورة، على تصعيد الكفاح لنيل الحقوق في الوحدة والاستقلال.
انطلقت الثورة السورية الكبرى في كل مناطق ومدن سوريا بقياده عدد كبير من القادة السوريين، من جبل العرب وحوران سلطان باشا الأطرش، ومن حلب إبراهيم هنانو، ومن دمشق حسن الخراط، ومن اللاذقية صالح العلي، وعدد كبير من المواطنين من مختلف مناطق سوريا. وقد تعزز التلاحم والوحدة بين القوى الوطنية المقاومة للانتداب، التي كانت منقسمة إلى مجموعتين هما الاستقلاليون والشعبيون؛ وتسمى الجميع خلالها بـ "الوطنيين".
اتفقت القوى الوطنية على ان تتقدم قوات الثورة من السويداء الى دمشق لتحريرها من المحتل. لكن الخطة فشلت ما اضطر قيادتها وقيادات حزبي الاستقلال والشعب الى اللجوء الى دول الجوار حيث توجه الاطرش ومئات من الثوار وعائلاتهم الى شرق الاردن، وبعدها الى السعودية بعد رفض سلطة الانتداب البريطانية بقاءهم فيه، بينما توجه عبدالرحمن الشهبندر ونسيب وفوزي البكري وسعدالله الجابري الى مصر، وشكري القوتلي وصبري العسلي وشكري الطباع الى حيفا.
لم يكن الفرق الكبير في ميزان القوى السبب الوحيد الذي قاد الى فشل تحرير دمشق، صحيح ان جيش الانتداب قد استخدم قدراته العسكرية الكبيرة دون قيود او حدود فقصفت الطائرات والمدافع الاحياء والبلدات والقرى ودمرتها بشكل شبه كامل، لكن ثمة اسباباً اخرى اعمق واكثر تأثيراً أوردتها الاستاذة سعاد جروس في الصفحة 79 من كتابها "من الانتداب الى الانقلاب- سورية زمان نجيب الريس"(دار الريس بيروت 2015) قالت:" الا ان هناك عوامل أخرى هامة قضت على الثورة وأطالت طريق الحرية على السوريين أهمها: غياب التنسيق بين الثوار، والفوضى التي كانت تخلفها أعمال العنف في المجتمع، والخلافات الحزبية بين القادة السياسيين، والتي تفاقمت في نهاية عام 1926 وأوائل علم 1927 فقد طفا على السطح الشرخ بين جماعة حزب الاستقلال العربي بزعامة شكري القوتلي والأخوين بكري وجماعة حزب الشعب بزعامة الشهبندر، حيث بدأ الخلاف لدى تحالف الشهبندر والاطرش اثر الثورة ما اثار حفيظة الاستقلاليين واتهموا الشهبندر بالعمل لصالح الهاشميين الذين كانوا يمدونه بالمال والدعم، باعتبارهم دعامة اساسية للحركة العربية، فيما كان القوتلي يناوئ الهاشميين ويرى في السعوديين السند الفعلي لسورية ولقضيتها".
لم تستمر وحدة القوى الوطنية وعادت الانقسامات بينها، إلتف الاستقلاليون حول شكري القوتلي، والشعبيون حول عبد الرحمن الشهبندر، وبلغت المنافسة بين الفريقين حد التراشق بالتهم كالعمالة لبريطانيا والفساد المالي والسيطرة على ما يرسله المغتربون لدعم الثورة في الداخل، كان القوتلي قد نظم من المنفى حملة تبرعات مالية وعينية، شملت الأسلحة، وذلك بالتعاون مع المغتربين السوريين، لدعم الثورة واستمرارها، التي امتدت إلى دمشق وحمص وحماه، وقد تناقلت الصحف والأوساط الشعبية الاتهامات المتبادلة.
الا انها عادت، بعد ان ادركت مدى الضرر الذي لحق بها وبالثورة، الى التنسيق والتعاون عبر تشكيل "الكتلة الوطنية" والدخول في مفاوضات مع المندوب السامي الفرنسي حول شروط الانتداب وحقوق الشعب السوري ووحدته ارضا وشعبا، والمطالبة بعقد معاهدة تحدد نهاية الانتداب واقامة حكومة وطنية وتشكيل مجلس تأسيسي ووضع دستور للبلاد.
لكن الاستعمار الفرنسي لم يقبل المطالب التي عرضت، وتمسك ببقاء سوريا مجزأة الى دول، ولجأ الى اللعب على الخلافات والتناقضات بين القوى السياسية والى استمالة بعض الاحزاب والشخصيات لتشكيل حكومة تقبل بالشروط الفرنسية، وقد نجح في احداث شرخ في الكتلة الوطنية حيث برز داخلها تياران، تيار ثوري(هاشم الاتاسي وابراهيم هنانو) يرفض الشروط الفرنسية ويدعو الى تصعيد النضال حتى تحقيق الاهداف الوطنية، وتيار مهادن(جميل مردم بيك وسعدالله الجابري) يدعو الى "التعاون المشرف" مع المحتل وتحقيق الاهداف بالتدريج، وقد "عقد يوم 19/10/1927 مؤتمر في بيروت برئاسة هاشم الاتاسي حضره ابراهيم هنانو وعبدالرحمن الكيالي وعبدالحميد كرامي وعبدالله اليافي والامير سعيد الجزائري، ورد على دعوة المندوب السامي الفرنسي ببيان دعا فيه الى تحديد نقاط الخلاف واخذ على سلطة الانتداب ابقاءها القيود على الحريات واعتبارها سورية شعوبا ودولا مفككة وطوائف واهمالها المصالح الاقتصادية للبلاد، واعلن رغبة المؤتمرين في التفاهم"( سعاد جروس المصدر السابق ص 81).
مالت الكفة في البداية لمصلحة موقف التيار الداعي الى "التعاون المشرف" فشارك جميل مردم بيك ومظهر رسلان في حكومة حقي العظم، قبل ان تعود الكتلة الى تبني الموقف الاول الرافض للشروط الفرنسية والمتمسك بالحقوق وبالنضال لتحقيقها فاستقال الوزيران جميل ومظهر، واعلن هنانو في تصريح لجريدة "القبس" ردا على محاولة المندوب السامي الفرنسي بذر الشقاق بين الوطنيين وافتعال المشكلات لعرقلة الاتفاق:" يجب ان يعلم الفرنسيون انه قد مضى الوقت الذي يظن فيه ان الوطنيين ينجرون وراء الاحداث والمفاجآت... ان السيادة الوطنية والوحدة هما اللذان يجب ان يكونا اساسا لكل عقد وكل اتفاق"( جروس، المصدر السابق ص133).
عمّ الغضب أنحاء البلاد من الاجراءات والقرارات الفرنسية مجددا وانطلقت الاحتجاجات والتظاهرات، ورفض سلطان باشا الاطرش تسلم الرئاسة أو تشكيل حكومة مستقلة في جبل العرب، لما في ذلك من تقسيم للبلاد، واستمر القادة الوطنيون، وقاعدة الثورة في جبل العرب ودمشق ودرعا وحلب وطرطوس واللاذقية وحمص وحماة ودير الزور والرقة بالتمسك بمطالب الشعب، فتزعزع موقف الفرنسيين وأصبحوا على قناعة تامة بأن الشعب السوري لن يهدأ قبل قبول مطالبه واجراء انتخابات برلمانية وتأسيس حكومة وطنية. وقد اجريت الانتخابات البرلمانية السورية في الثلاثينات، وصيغ دستور وتشكلت حكومة وطنية.