ما تبقّى من الوحدة العربية
قد لا يطول الوقت كثيراً لكي ننعي واحداً من أكثر الأحلام العربية نبلاً؛ الوحدة العربية. لم يكن التجرؤ على هكذا أحلام طموحة إلا المشاعر الشعبية المتأجّجة. المحاولات لتحقيقها أسهم فيها مثقفون وعسكريون بصرف النظر عن أساليبهم، وعمل على الدعوة إليها أجيال من الحزبيين والمناضلين العرب، كرّسوا لها حياتهم عن إيمان وقناعة، وذاقوا السجون والمنافي... تطول قائمة التضحيات من أجل الوحدة العربية. في الحقيقة، بذلت أيضاً في سبيل إحباطها انقلابات ومؤامرات ومحاكمات وتحالفات، حتى أن تاريخ المنطقة في الخمسينات والستينات تمحور حولها، وغالباً ما بدت قاب قوسين أو أدنى، يكفي أن تدرج في البلاغ رقم واحد، حتى يعتقد الشعبان أنهما أصبحا شعباً واحداً. غير أن العراقيل الداخلية ومثلها الخارجية، أوقفت الحلم وبدأ الواقع، ولم يكن سوى بداية التراجعات غير المحسوبة عنها، فتضاءلت حتى كحلم.
قبل ذلك، استبعاداً لها، ارتأى السلطات العربية، التمهيد للخلاص منها بطرح مقولة التضامن العربي، ولم تكن إلا تعاوناً بالحد الأدنى، يخشى أن يتفاعل أطرافه، فيعود الغزل الوحدوي إلى سابق عهده، فاستعيض عنه بالتغلب على عوامل الشقاق بين الدول العربية، وتكريس التفاهم فيما بينهما على أساس الاستقلالية القطرية، واعتبار العمل على الوحدة، اعتداء على سيادة الدول، وخروجاً على التضامن العربي. أخيراً لم يبق منها سوى شعار يرفرف في العالي، يتنعم به الجميع، تحت ظلال الفرقة.
حان اليوم، أو قارب، أوان التباكي عليها، سواء كان بدموع التماسيح، أو دموع العواطف المحبطة، ليس أن الوحدة محيت من الأذهان، ونبذتها الاحتفالات الجماهيرية، وانتفت من الخطابات اللفظية المتعارف عليها. بل إن الشعب تجاوز الأكاذيب والأوهام، بعدما تسلطت حقيقة صلبة؛ البلدان العربية في سبيلها إلى التمزق، البلد الواحد سيصبح عدة بلدان. البداية من سورية والعراق؛ التقسيم جار، وقارب أن يصبح أمراً واقعاً. من خلال رسم الحدود لدول سنية، وشيعية، وعلوية، ودرزية، ومسيحية، وكردية... هل ثمة مذاهب وأعراق أخرى؟
هناك من سيقول إن هذا من تداعيات الربيع العربي الذي هبّ على سورية، وخلّف احتجاجات وفوضى، وربما انتفاضة أو ثورة... ثم عمّ الارهاب. ما جعل من "داعش" قوة عظمى تجتاح سورية والعراق وتمزقهما في سبيل توحيدهما تحت راية دولة العراق والشام.
على الطرف الآخر، هذه الخسارة تهون إزاء إحباط إخراج سورية قلب العروبة النابض من تحالف المقاومة والممانعة. أدرك النظام بحسابات دقيقة، وبشكل مبكّر أخطار الربيع العربي، وتبصّر في عواقبه، فكان الردّ صاعقاً على المظاهرات السلمية، الأولوية لدحر إسرائيل، وأي عمل يضعف التحالف الإيراني السوري وحزب الله، يعني الوقوف في خانة الأعداء.
لا مساومة في قضية الممانعة والمقاومة ولو كان فيها خراب سورية كلها، الإنجاز العظيم كان في تحويل قضية الكرامة والحرية إلى إرهاب لا يطول سورية وحدها، بل المنطقة العربية والعالم. وقريبا ربما جندت الدول الكبرى أجهزة مخابراتها وراء سورية للقضاء على الإرهاب الأصولي السني.
اختراع، أو اختلاق قضايا بديلة عن الحقيقية، كان من اختصاص دول شمولية، جازت دعاواها إلى حد ما على شعوبها. اليوم تجوز على دول بحالها، ليس لأنهم مقتنعة بها، وإنما لأن الإرهاب قد ينال منهم. النظام السوري يلعب بشكل صحيح ويحقق أهدافه، السلطة باقية رغم أنف العدالة والحرية والثورة والضحايا والشهداء.
في حسابات المستقبل، ما ارتكبته إيران وحزب الله في حق السوريين لن تمحوه الأكاذيب. مؤازرتهما للنظام خلَّفت مئات الآلاف من القتلى والمفقودين والمعتقلين والمعاقين... وملايين النازحين، ومدن خراب. هل تتصوّر إيران وحزب الله أن السوريين سينسون لهم هذا الصنيع؟
الأضرارلا تتوقف على الشعب السوري... بل أصابت المقاومة، إن كان ثمة مقاومة، والممانعة، إن كان ثمة ممانعة، والعرب، وفلسطين... والوحدة التي لم يبق منها سوى الأمل بحسن الجوار.
وهذا دونه عقبات وعقبات.