حقائق واوهام !
ما أن بدأ الهجوم الأخير ضد مؤسسات الحكومة وجيشها في العراق ، حتى تعالى الحديث في الغرب عن تنظيم "داعش" وانفراده بالقتال ضد النظام العراقي ، وبدأت التخمينات والتقديرات تتباين بين تدخل أميركي مباشر ومحدود فيه ، وبين الاكتفاء بدعم عن بعد للمؤسسات الحكومية وأجهزتها الأمنية ، ردعا للإرهاب وضمانا لأمن واستقرار العراق، وتفاديا لحرب إقليمية .
والغريب أن أحدا لم يفكر بأحد هذين الاحتمالين بعد هجمات "داعش" المتنوعة في سورية ، ولم يقم بأية مبادرة لدعم الجيش الحر ضدها، حتى بعد أن شرع يقاتلها ويطردها من مناطق واسعة شمال سورية ، ما لبثت أن عوضتها من خلال احتلال مناطق سورية تقع في أماكن أخرى ، دون أن يتحرك أحد في العالم ، مع أن ما حدث جرى تحت سمع وبصر الغرب عامة وأميركا بصورة خاصة . والأغرب أن هذه المنظمة الإرهابية لم تعتبر خطيرة عندنا، رغم أن وضعها هنا مرتبط بوضعها العراقي، وربما يكون مساويا له أو أفضل منه ، وأن العالم لم يستنفر ضدها في العراق، بل شجل على رصيدها الخاص كل من يحمل السلاح ضد عصابة المالكي وقتلته من :
عشائر غربي العراق ، التي تعرضت لعدوان النظام طيلة فترة ما بعد عام 2003، وحرمت من حقوقها الطبيعية والسياسية ، وشن عليها جيش المالكي الحرب تلو الحرب، وقتل منها من قتل ، ونكل بمن نكل ، وأهان شيوخها وانتهك حرمات أفرادها واقتحم قراهم ومدنهم ، وسرقهم واعتقلهم ومزق أجساد الآلاف منهم ، فللا عجب أن يكون معظم الذين يقاتلون المالكي منهم ، وأنهم قاتلوه بعد أن وجهوا إليه إنذارات متعاقبة تهدده برد عنيف، إن هو لم يقلع عن قصفهم وقتلهم ، وواصل تسليم قراهم ومدنهم ل"داعش"، في سياق اتهامهم كذبا بالأصولية والإرهاب.
تنظيم بعث العراق ، الذي يقاتل منذ نيف وعشرة أعوام ، ولا يعقل أن يكون فرعا من "داعش" ، التي لا يعقل أن ترفع صور صدام حسين بكثافة على الطرق التي انسحب منها جيش المالكي. وهو تنظيم قوي تمرس على القتال خلال حقبة ما بعد الاحتلال وإسقاط رئيسه ونظامه، ولا تنقصه القدرة على التخطيط والتنفيذ ، كما لا ينقصه المقاتلون في صفوفه ، ما دام قد انفرد لفترة بالقتال ، بينما ترقب الآخرون التطورات قبل أن يقرروا مواقفهم.
ضباط وجنود الجيش والأمن الذين لا يقرون المالكي على سياساته الطائفية والتمييزية ، ولا يرغبون في الدفاع عنه ، وشوهدوا بالآلاف وهم يحملون بنادقهم جنبا إلى جنب مع مقاتلي العشائر ومقاتلي البعث وغيرهم .
"داعش" ، وهي منتشرة في صحراء العراق الغربية ومشغولة بالحرب في دولتين ، ومن المستبعد أن تكون قد احتلت بمفردها مدينة ضخمة كالموصل بكل ما فيها من مرافق عسكرية ومنشآت حكومية ، دون أن تستخدم غير عدد من مقاتليها يتراوح بين 500 و600 مقاتل ، كما قيل ،وأن تكون قد واصلت بهم هجومها نحو بغداد واكتسحت محافظات وأقضية عديدة . لا يعني هذا أن "داعش" ليست موجودة ، بل يعني أنها ليست من صنع الهجوم ، وانه ليس لديها القدرة على مواصلة الحرب وحدها ، كما توحي تصريحات غربية كثيرة تبالغ في قوتها انسجاما مع أطروحتها وأطروحة المالكي حول أصولية من يقاتلون النظام وإرهابيتهم .
هذه هي القوى التي اجبرها نظام المالكي على قتاله ، لشدة ما استخدم ضدها من عنف ، رغم أنها حذرته مرارا وتكرارا من هجوم واسع النطاق تشنه ضد جيشه بأسلحة موازية لأسلحته، وحرصها على عدم زج بلادها في حرب تعمق التناحر الطائفي فيها ، وتؤدي إلى دمار واسع يطاول جميع مدنها وقاها وبلداتها ، ورغبتها المعلنة في تسوية سياسية متوازنة تعطيها حقوقها . لكن المالكي ركب رأسه ورفض أي حل وسط سلمي معها، مستندا على حسابات طائفية وسلطوية وعلى علاقاته مع إيران، التي شجعته على التدخل العسكري في سورية ، ومقاتلة المخالفين له طائفيا في العراق ، بما يملك من جيش كبير تعداده مليون جندي ؟.
لم تفت بعد فرصة الوصول إلى حل سياسي يخرج المالكي من السلطة ، ويجعل العراقيين مواطنين يتساوون في حقوقهم وواجباتهم أمام القانون وينعمون بالعدالة . ولم تفت بعد الفرصة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تعيد النظر في الدستور وإستراتيجيات الحكم، وتستعيد استقلالية القرار الوطني العراقي من قادة إيران، وفي ارتباطات بغداد الدولية، فيرتاح شعب العراق وتنجو المنطقة من حرب بلا نهاية لا يعرف أحد نتائجها ، يؤكد نموذجها السوري أنها لن تكون غير كارثة رهيبة لا مثيل لها في تاريخ دولنا وشعوبنا !