تداعيات المشهد الأخير
لا تخفي الحرب الأهلية في سورية بعض التشابه مع الحرب الاهلية الاسبانية، انتصر للثورة الإسبانية المتطوعون من أوربا وأمريكا. سورية ايضاً جاءها المتطوعون من بلاد العالم أجمع غرباً وشرقاً؛ المتطوعون لم ينفعوها بقدر ما أضروها.
في سورية، ضبط متطوعون من أفغانستان التي مازالت تعاني من الاقتتال الداخلي وتنزف بالدماء منذ أكثر من عقدين. هذا حسب خبر في الأسبوع الماضي، فقد افاد "المرصد السوري" عن ظهور أفغانيين شيعة على ساحة القتال في ادلب وحلب يقاتلون مع الميليشيات العراقية الممولة من إيران. ما يشير إلى أن سورية التي احتضنت متطوعين من جنسيات مختلفة، باتت مطبخاً للصحوة المذهبية الإسلامية في أصقاع العالم، تدير نزاعاتها الفقهية بالقنابل والأحزمة الناسفة. ولم يعد مفيداً معرفة أي طرف بدأ هذا التنافس، إن كان إيران أو "داعش" في استقدام متطوعين من الشيعة والسنة، ومنهم الذين اهتدوا إلى الإسلام حديثاً، توجهوا مبكراً الى الجهاد. ترى ما علاقتنا نحن السوريين في هذا القتال الذي يعتمد المذهبية لاستجرار المقاتلين إلى بلادنا؟ صحيح أن سورية لم تشهد في القرن الماضي حرباً طائفية، لكنها تشهد نظاماً استفاد منها للإبقاء على حكمه.
حربنا المستعرة في دور الانتقال إلى بلدان العالم القريبة والبعيدة، فالذين لم تسمح لهم الظروف بالقدوم الى أرض المعركة أخذوا يشاركون فيها بافتعال عمليات ارهابية مصغرة في مقهى او مدرسة او ملهى... باحتجاز رهائن وإطلاق مطالب تعجيزية، ريثما يجري اقتحام المكان وقتل الخاطف وبعض الرهائن. المجتمع الدولي يمضي متمهلاً نحو فقدان توازنه، يدل اليه العجز الذي تواجهه حكومات ودول ليست لديهما استراتيجيات واضحة ومسؤولة إزاء السلام في العالم، على استعداد للتراجع عنها، والتلويح بها، واجراء تعديلات عليها، حسب رياح مصالحها، غير أن ما يجري على الأرض لا يثبت على حال، رغم إمكانية التأثير فيه. الأطراف غير مطمئن الواحد منهم إلى الآخر، حتى الذين في جبهة واحدة، الروس لا يثقون بالإيرانيين وبالعكس، إذ ما الذي يجمع بين روسيا وإيران غير مصالح غير دائمة تنقضي بانقضائها، حالياً تجمع بينهما الكارثة الاقتصادية، ما سوف يملي عليهما التخفيف من تنشيط الحرب السورية بخبراتهما وأسلحتهما وأموالهما. كذلك أمريكا تضيق بالأوربيين الذين لا يستوعبون استراتيجيتهم البعيدة المدى. والاوربيون منزعجون من الأمريكيين لأنهم يغردون بأصوات منفردة، ويريدون منهم اللحاق بهم والتصفيق لهم. لذلك الارتدادات متوقعة، والانتقالات من صف الى صف متوقعة. الوساوس بدأت تفعل فعلها نتيجة هبوط أسعار النفط، الإيرانيون اعتبروها مؤامرة دولية سياسية ضدهم، والروس محاولة لتغيير النظام في روسيا. أما السوريون الذين ألزمهم واقع الحال بالثبات على مواقفهم والتشبث بها، فليس لأن النيران المنصبة عليهم لا تسمح لهم إلا بمحاولة ألا تفنيهم، بل لأن سورية بلدهم والتحول عنها خيانة، يدفعون ثمن صمودهم بالتضحية بأنفسهم، أو بالتشرد والخيام.
لا تبدو الحلول السياسية المطروحة حتى الآن، أكثر من استثمار لوقت مهدور، سواء الأممية (ميستورا) أو الروسية (بوغدانوف) والمصرية التي في الطريق ايضاً. تراوح بين تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو مصالحات محلية، وربما توسيع الجبهة الوطنية التقدمية، أو لا شيء، من يدري؟ عموماً أصحاب المبادرات متكتمون على التفاصيل، خشية أن تتعرض للأضواء، فتفسد. ما زالت هموم حاملي الحلول الغامضة إشعار مستأجريهم بأنهم يعملون، مع التقليل أكثر ما يمكن من الجعجعة.
بقعة الحبر الدموية إلى توسع ان لم يتداركها العرب أنفسهم، فإيران ومثلها روسيا وأمريكا يستعملون العرب وقوداً لطموحاتهم، وحققوا نجاحات لا ريب فيها، فبلدان الربيع العربي سابقاً، بعضها تفجر، وبعضها الآخر على وشك التفجر، الأكثر حظاً منها، الدول غير المستقرة.
الحرب المجنونة افادت أطرافاً كثيرين، حتى بعدما أصبحت عبثية، هناك من يستنزفها حتى الرمق الأخير، وسواء تقدمت أو تراجعت، فهي تراوح في مكانها، تؤكد على حيويتها بقدرتها على التدمير، ورفع أرقام الضحايا. أما المبادرات السياسية بأنواعها فمؤجلة، الحرب أنهت فصول الربيع والخريف، وتحاول في هذا الشتاء الطويل النجاة من عواصفه، ربما في الصيف القادم يحصل نوع من الاستجمام الرحيم، أو انهيار لن يكون إلا واحداً من سلسلة انهيارات متوالية في منطقة اعتادت هذا النوع من التقدم نحو حل كلما اقتربت منه، لا تدرك أنها تبتعد عنه.