نبوءة الأصنام بين بغداد والرقة
عندما تشاهد التمثال الضخم لحافظ الأسد وهو يسقط في الرقة، يصعب تجنّب استحضار ذلك المشهد الشهير لسقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد في 9 نيسان 2003، وهو الحدث المفصلي الذي أعلن عن انتصار ساحق لقوات التحالف على الجيش العراقي إبان حملتها لغزو البلاد.
هناك حمولة رمزية مُعتبرة في هذه المقارنة بين سقوط "الصنمين".
في ساحة الفردوس في العراق حيث تم استبدال نصب الجندي المجهول الرشيق، بتمثال هائل للزعيم العراقي بمناسبة عيد ميلاده الخامس والستين (كان صدام كنظيره حافظ أبدياً بالطبع) حضرت مدرعة أميركية ضخمة لتتولى مهمة إسقاط التمثال. وفي لقطة شهيرة، صعد أحد جنود المارينز ليضع العلم الأميركي على رأس التمثال، قبل أن يستشعر رفاقه غضب الحاضرين العراقيين فيزيل العلم. وبجهد حثيث تم اقتلاع التمثال بواسطة حبال المدرعة المتينة. لكن أكثر ما أثار الانتباه في حينها، أن ساقي التمثال بقيا منتصبين لحدود أسفل الركبة تقريباً، لقد انكسر التمثال ولم يُقتلع!
بدا صدام "الصنم" حينها عنيداً ومُتشبثاً باحتلاله هذه الرقعة. اعتلى المحتشدون رأسه وجسده الساقط على الأرض، فيما بقي ساقاه على المنصة العالية التي تتوسط الساحة التي يملكها الأميركيون. في استعادة رمزية تلك اللحظة، بدا وكأن هناك رسالة تقول للعراقيين: "ليس هكذا يُقتلع الاستبداد". وكأنها نبوءة مشؤومة من صنمٍ غير مأسوف عليه، حذرت من عراق الغزو وما بعده، عراق الاقتتال الدموي، عراق المُحاصصات الطائفية والارتهانات الإقليمية، عراق المالكي.
في الرقة، في 4 آذار 2013، لا مُدرعات أميركية ولا مارينز ولا حتى مدرعات من أي نوع. تجمهر حشدٌ من السوريين ليسقطوا التمثال دفعة واحدة وبصخبٍ عظيم. تمتزج صرخات وتكبيرات المحتشدين، بدموع بعضهم وحشرجة آخرين تغالب أصواتهم المبحوحة، تشعر بأن القلوب تصرخ لا الحناجر، تصرخ لترمي عنها ثقل الصنم وعقوداً من الظلم الرهيب. يسقط التمثال لترتطم جبهة القائد الخالد (أبو الجبين العالي بحسب الأغنية الشهيرة) بحافة البحيرة البليدة التي كان يتوسطها.
بسواعد مُرهقة بعد سنتين من الثورة، يسقط السوريون صنم الرقة، يقتلعونه هذه المرة. هل هذه نبوءة جديدة من صنمٍ آخر ساقط؟ وكأني بالنبوءة تخبرنا بأن الاستبداد لا يُقتلع إلا بثورة شعبية ومؤلمة وهدّامة بالضرورة، وأن مثل هذه الثورة وإن كانت يتيمة ويتربص بها الجميع، إلا أنها ستنتصر بلا ديون تثقل كاهلها. في الربط بين اللحظتين، ما يشي بذلك.
ترى في الجمهور الرقاوي، فتيةً وشباباً في مقتبل العمر، بعضهم لم يعايش حقبة الرئيس الأب. فيما عايش كل المحتشدين في بغداد آنذاك صدام حسين، الذي كان مازال في ضواحي المدينة لحظة إسقاط تمثاله. لماذا إذن هذا الاندفاع الكبير لفتية وشباب صغار لتحطيم صنم حافظ؟ أحسب أن الأمر يتجاوز حضور التمثال بوصفه رمز هيمنة النظام على المدينة.
يُدرك المحتشدون والشباب أولهم، أن الأب مازال يحكم وإن بأشكال مختلفة. إنه هو من خلق هذا الوحش الجاثم على صدورهم. حتى الأمس كان هذا الصنم يحكمهم فعلاً لا مجازاً، يُشرف عليهم من موقعه ويراقب كل حركاتهم، ويعد عليهم أنفاسهم. بابتسامته الصفراء الدائمة، كان يسخر من عجزهم ويذكرهم بأنه يتربص بهم.
تشعر وأنك تراقب المشهد بأن انقضاض الشبيبة لاحقاً على الصورة الضخمة للرئيس الابن قرب صنم الأب هو أمرٌ ثانوي، تحصيل حاصل في أفضل الأحوال. في العلاقة بين الصنم الهائل والمُصمت والثقيل وبين لوحة مُعلقة بالقرب منه، رمزية يدركها المحتشدون في الرقة والسوريون من ورائهم. إن اقتلعت هذا، فتلك ستذهب حتماً أدراج الريح. لا مقام للوحة بدون الصنم، فهي مجرد استحداث هزيل لذلك الصنم المقيت.
هناك حمولة رمزية مُعتبرة في هذه المقارنة بين سقوط "الصنمين".