نصيب المجد في لوثة القتل
عندما فقد نابليون ثلاثين ألف جندي في معركة "فاغرام" لم يشعر بأي ذنب، عانى فقط من سوء المزاج، هذه إحدى سخريات سيوران الفيلسوف الروماني الأصل، لا تؤخذ على محمل الجد، لكنها تحيلنا إلى حقيقة مهينة، البشر لا يساوون شيئاً في معمعة الحروب والصراع على السلطة.
تلغي الحرب الإحساس بالقيمة الإنسانية للبشر، فالتضحية بالآلاف في ساحات القتال على مر التاريخ في العالم، كانت وقائع مؤلمة ومعروفة. لم يكونوا أكثر من وسائل يسطر بها المهووسون بالعظمة صفحات أمجادهم. ولا عذر لهم سوى أنه ليس لديهم ما يضحون به سوى جنودهم، تحت دعاوى دينية ووطنية وأيديولوجية. ولذلك كانت ضحاياهم تشمل شعوبهم والشعوب الأخرى دونما تمييز.
لا يكتفي رجال الحرب بزمانهم، ولا بمجالهم الحيوي في ساحات القتال وخطط التدمير والإفناء، بل يذهبون بأبصارهم نحو المستقبل، وكأن المستقبل ينبغي أن يعكس مآثرهم وحدها، على أن تظهر في ما سيكتبه التاريخ عنهم بعد رحيلهم، فعيونهم المسلطة على سجلاته التي لم تكتب بعد، لا هدف لها سوى أن يُفرد لهم مساحة تفوق ما ظفروا به وحققوه. فلا يدعون سيرتهم للأعداء يشوهون سمعتهم بعد الموت، بل يصنعون صورة أمجادهم وهم على قيد الحياة.
التاريخ لا الحاضر يصنع الأساطير، وهم الأحق به، طالما يعتقدون أن دوافعهم تتعالى على البشر، وغاياتهم لن يفهمها العامة، دوافع لا تأخذ الشقاء الإنساني في ميزان الطموحات العظيمة، والأهم، تطويع الناس لأقدار غامضة بعيدة المرمى. وما دام الحاضر لهم، فهناك فسحة من الزمن تسمح بكتابته على سوية جليلة الشأن.
ولقد أمر الكثير من الأباطرة والملوك والسلاطين والولاة والأمراء، رجالهم من المؤرخين بكتابة سيرتهم خالية من المخازي، ما جعل عهودهم تحفل بإنجازات عظيمة، تعدتها إلى قلب الجرائم إلى بطولات، ومع هذا كشفت الكثير من المجازر، في وقتها كانت دليلاً على القوة والشدة والبأس. فالفتوحات مهما بلغت من قسوة وهمجية لا تعد من المخازي، ولا توصف بالوحشية. ففي العصور القديمة، كان قطع رؤوس آلاف الأسرى، يُخلد بصورة تذكارية جماعية، تنقش على الحجر، كما في العصر الحاضر، قتل المئات وربما الآلاف بكبسة زر، وقصف المدن وتسويتها بالأرض يُعد انجازاً تقنياً باهراً.
كما راعت العهود الاشتراكية الميمونة وغير الميمونة تسطير أحداث زمانها من وجهة نظر أيديولوجية، فاحتاط السياسيون بكتابة مذكراتهم على نحو يعفيهم من المحاسبة، وتعللوا بضرورات التاريخ الحتمية ذريعة للتسلط والإقصاء والإلغاء، وأصبح للأيديولوجية مبررات تسوغ الإعدامات وبارانويا المؤامرات؛ آخذين بعين الاعتبار أن خصومهم يكتبون مذكراتهم مذيلة بقائمة اتهامات!!
المهزلة الأسوأ أن ما يسعى إليه الإنسان من انتصارات لهو مثل الهزائم، سلسلة لا تنتهي، وليس لها حدود، وتكلف غالياً من البؤس الإنساني. وإذا كان التاريخ لا يحتفي بها، ولا بمقدوره إيقاع العقاب عليها، لكنه لا يغفلها، وإن كان للأسف يهتم بها، كما اهتمامه بمولد حضارة، أو ظهور ديانة، أو سقوط إمبراطورية، السفاحون أيضاً يخلدهم التاريخ. ما يستدعي التساؤل: ترى هل للمجد نصيب في لوثة السلطة والقتل وتدمير العمران، توازي إن لم تتفوق على إقامة التماثيل وتشييد النصب التذكارية؟
مع هذا من يمتلك الحاضر لا يمتلك المستقبل، إذ مهما امتد الحاضر فمآله إلى التاريخ، هناك يقبع شيخ عجوز بلحية بيضاء، بلغ من العمر عتياً، أمامه صحائف يسجل عليها أحداث العالم. هذا العجوز رغم ما يتصف به من حكمة وحصافة، قد يتعرض للخديعة، لذلك ما يكتبه اليوم قد ينقضه غداً.