الكلمة إذ تتحرّر

فواز حداد
الأحد   2013/03/17
 سوف تزود الثورة السورية في قادم الأيام البحث التاريخي والاجتماعي وعلم النفس بمخزون هائل من المعطيات الميدانية تساعد على الكشف عن عوالم، كنا نجهلها، مع أن بعضها قار في أعماقنا، وبعضها الآخر كنا نتجاهله ونتعامى عنه. لن تدهشنا النتائج، فما نراه اليوم يفوق أية دهشة مستقبلية. بات كل شيء متوقعاً، فما حدث من حروب أهلية وكوارث ومجاعات ونزوح على مدار قرن في منطقتنا، يتكرّر يومياً. مشاهد وفّرت اختبار معاناة العذاب، في أكثر درجاته تنوعاً، مختزلاً على مدى عامين، الأطول في تاريخ سورية. 
وبلا شك ستوفر أيضاً مادة غزيرة للأدب والفن، رواية ومسرح، سينما وقصة وشعر وفن تشكيلي... ولا ننسى المسلسلات التلفزيونية، وكأن مصائب قوم عند قوم فوائد، لكنها مصائبنا وحدنا، وعذاباتنا وأفراحنا التي تخصنا. وربما ستكون الرواية صاحبة النصيب الأكبر مما سيصبح تركة مؤلمة، وهذا ما سوف يتيح لنا أن نكتب رواياتنا، من واقع مآسينا، لا التطفل على موضوعات الغرب واستعارة تقليعاته والاستعانة بأساليبه. نعم حان الوقت كي نجري انعطافة صغيرة، وهي صغيرة لأنها تجري بمرمى أبصارنا، ونحن في داخلها لا خارجها، نروي فيها شيئاً عن بلادنا، لنتعرف على أنفسنا بالدرجة الأولى، ونعرّف الأجيال الحالية والقادمة على أهم حدث شهدته سورية في عصرها الحديث. عندئذ لن يحتاج الروائيون إلى قصص الآخرين، لديهم رواياتهم في زمن كانوا جزءاً منه، وشهوداً عليه. 
لا تتفوق الثورة الفرنسية ولا الروسية على الثورة السورية. وإذا كانت الثورتان قد خصّتا الطبقات المحرومة والمستغَلة من العمال والفلاحين، فالسورية لم تقتصر عليهما، بل شملت الشعب السوري بمختلف طبقاته. وفيما لو استمرت على هذا المنوال فسوف تبز بمعاركها  الحربين العالميتين الأولى والثانية، مع أن ساحات المعارك السورية محدودة الرقعة بالمقارنة مع جبهات القتال في أوروبا وأميركا وآسيا...هذا للذين ينظرون إلى التحولات في العالم من زاوية تعدّد الجبهات وطلعات الطيران وقصف المدافع وراجمات الصواريخ... 
لا تقتصر الرواية على الحرب والدخان ودويّ المدافع، تلك مظاهرها المروعة. الرواية تميل نحو الأكثر إنسانية وترويعاً؛ البشر في أتون الحرب، البشر في مواجهة الظلم  والقمع الذي يفرز الحقد والبشاعة، الوحشية والشراسة، الدمار والنهب، التعذيب والرعب... الإنسان إذ يتحول إلى وحش، والإنسان إذ يدافع عن إنسانيته، والإنسان أمام الفجيعة وخيارات المصير... ودائماً في حدودها القصوى.   
تكشف الثورة عن مشهد هائل يتصارع فيه الأبطال والأنذال، بينما في الأعماق، فالاستئثار بالسلطة، والجنون الطائفي، وجشع المنتفعين، وخيانات المثقفين، وموت الضمير، وانحياز الناس لمصالحهم الضيقة، وتضحيات البسطاء، ودموع الأمهات، والإيمان بالله،  والذهاب إلى الجنة...  والبشر الذين يقتلون دعساً بالأقدام، والذين يطلبون الخبز، فيتلطّخ بالدم. بشر في عرف القاتل لا يساوون أكثر من طلقة قنّاص، والموت بالجملة قصفاً بالطيران وبصواريخ سكود.  
يدفع السوريون الثمن غالياً من دماء أولادهم وآبائهم وزوجاتهم وأزواجهم... بكل بساطة: في سبيل الحرية، تلك التي يجدها بعض المثقفين ثقيلة على الأسماع، فهي من تراث الأسود والأبيض، ولا يصح أن تكتب، لئلا يوصموا بالأدلجة، إذ كل ما يوحي بالسياسة يؤذي مشاعرهم. بلا مبالغة تبدو هذه العبارة من فرط ما ابتذلت، فجة في وطنيتها الزاعقة. أما لماذا تبدو على هذا النحو، فلأنها رذلت طوال أربعة عقود، عانينا من الطغيان على أنه حرية، لهذا لم يعد الإيمان بها فضيلة، بمقدار ما هو ادعاء. 
اليوم، اعيد للحرية اعتبارها، هناك ما يزيد عن ثمانين ألف شهيد آمنوا بها، وهناك غيرهم بالملايين على استعداد للتضحية من أجلها. الحرية لم تعد أكذوبة يسخر منها نظام فاجر متبجح وغبي. 
اكتبوا: الكلمات استعادت معانيها، الكلمات تحررت.