عمر عزيز وعجز الرثاء
كيف نرثي عمر عزيز شيخ الشباب الستيني؟ من أين نبدأ وأين نتوقف؟ وهل للرثاء من قيمة سوى مواساة الروح المكلومة؟ في حضور غيابه الطاغي يبدو الرثاء فعلاً أنانياً بحق، مجرد محاولة يائسة للهروب من ألمٍ لا يطاق.
ثلاثة أشهر على اعتقال عمر من منزله من قبل قوات الأمن السوري. ثلاثة أشهر أمضاها أكثر الرجال تفاؤلاً بمستقبل سوريا الحرة في زنازين المخابرات الجوية الصماء. في كل يوم كنا نفتقد ابتسامتك التي لم تفارقك قط، وفي كل يوم كنا نفكر بحبة الضغط التي لا تفارقك أيضاً، هل كنت تتناولها أم لا؟
كيف أمضيت هذه الشهور، قبل أن تنتقل إلى سجن عدرا المركزي، ليخطفك الموت منا هناك؟ لم يعد بإمكاننا أن نعرف. سيُطوى هذا مع رحيلك، كما ستُطوى أحاديثنا التي لم تكتمل حول العدالة الاجتماعية والفلسفة والاقتصاد والأدب. أشياء أخرى كثيرة ستبقى معنا إلى جانب روحك الطيبة، هناك ذكريات اللقاءات الدافئة في دمشق، وكتب مستعارة لم نردها لك، وجعبة لا تنضب من الحكايات. سيبقى معنا أيضاً إيمانك الراسخ بقدرة السوريين على النهوض وبناء دولتهم الجديدة، أنت الذي اختبرت تقلبات الحياة، ولم تبخل علينا نحن الشباب المغرور والمندفع، بتشاركٍ سخي لمعارفك المتنوعة.
في منتصف عقده السادس، كان عمر الأكثر حيوية في مطالعة أحداث الثورة وفي الانخراط في أي جهدٍ من شأنه الإسهام في النهوض بالدولة المقبلة ومؤسساتها. كان من أوائل من تكلم عن أهمية التعليم البديل وضرورة وضع حلول لانقطاع التلاميذ القسري عن مدارسهم، وكان أول من تكلم عن أهمية إنشاء مجالس محلية كخطوة مفصلية لتقدم الثورة. كم كنتَ مُتبصراً وأميناً لكونك مثقفا يا عمر! وكم أشعر بالخجل عندما أستذكر أحاديثك الحماسية في ذلك المقهى الدمشقي وكيف قابلناها مراراً بالإحباط نحن الشباب في أوائل عقدنا الثالث! هو الذي قضى سنوات طويلة يعمل خارج سوريا، قرر أنه باقٍ في دمشق حتى يشهد تتويجها بالحرية، رفض المغادرة هو الذي لم يشكو أبداً من ندرة فرص العمل المغرية في الخارج. أكان حدساً يا عمر أنك ستقضي في مدينتك الأثيرة شهيداً؟ كم هو مبكر ومفجع رحيلك. وكم يشبهك هذا الرحيل! أنت يا من عملت بدأبٍ وصمت، لن تكون حاضراً لتقطف ثمار عملك النبيل. ألم تفعل ذلك مراراً؟ أكان من الضروري تكرار هذا مرة أخرى؟
عندما بلغني رحيلك، خشيتُ التحدث مع عمر وعدي، تكلمنا باقتضاب شديد، كي لا نفضح انكسارنا برحيلك. من سيتحمل الآن نزقنا وقلة حيلتنا في عوالم الفلسفة؟ استرجعتُ رسائلك ومقالاتك القديمة، ونقاشاتك مع عبد الحي السيّد وتعليق ياسين الحاج صالح على النقاش. استعدتُ كلمات عباس بيضون بعد اعتقالك بأيام، أوصانا بأن نلاحقك وأن نعرف أين اقتادوك؟ وحذرنا من مغبة فقدانك هناك؟ أي نبوءة تراجيدية لعباس هذه؟ وأي ذنب سيلاحقنا مدى العمر لأننا لم نفعل شيء لنساعدك، ولم نعرف ماذا حل بك هناك؟
لو تعود يا عمر فأبوح لك بأني مازلت لا أفهم تعقيباتك على كتابات مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، ستبتسم كعادتك مُتفهماً. لو تعود لأعترف لك أني في ذلك اليوم في حي الميدان، عندما فشلت كل محاولاتي لثنيك عن القدوم، وكانت قطعان الأمن والشبيحة تحوم وهي تستعر غضباً، لم أكن أحميك بالادعاء أنك أبي كما قلتُ لك يومها، كنتُ فقط خائفاً كطفل عديم الحيلة، كنت أستمد الثبات منك. لو تعود يا عمر فنكمل المشوار معاً وتبث فينا الحكمة والعزيمة... نعلم أن لا رثاء يليق بك إلا الحرية الكاملة.
لكن... لو تعود يا عمر.
ثلاثة أشهر على اعتقال عمر من منزله من قبل قوات الأمن السوري. ثلاثة أشهر أمضاها أكثر الرجال تفاؤلاً بمستقبل سوريا الحرة في زنازين المخابرات الجوية الصماء. في كل يوم كنا نفتقد ابتسامتك التي لم تفارقك قط، وفي كل يوم كنا نفكر بحبة الضغط التي لا تفارقك أيضاً، هل كنت تتناولها أم لا؟
كيف أمضيت هذه الشهور، قبل أن تنتقل إلى سجن عدرا المركزي، ليخطفك الموت منا هناك؟ لم يعد بإمكاننا أن نعرف. سيُطوى هذا مع رحيلك، كما ستُطوى أحاديثنا التي لم تكتمل حول العدالة الاجتماعية والفلسفة والاقتصاد والأدب. أشياء أخرى كثيرة ستبقى معنا إلى جانب روحك الطيبة، هناك ذكريات اللقاءات الدافئة في دمشق، وكتب مستعارة لم نردها لك، وجعبة لا تنضب من الحكايات. سيبقى معنا أيضاً إيمانك الراسخ بقدرة السوريين على النهوض وبناء دولتهم الجديدة، أنت الذي اختبرت تقلبات الحياة، ولم تبخل علينا نحن الشباب المغرور والمندفع، بتشاركٍ سخي لمعارفك المتنوعة.
في منتصف عقده السادس، كان عمر الأكثر حيوية في مطالعة أحداث الثورة وفي الانخراط في أي جهدٍ من شأنه الإسهام في النهوض بالدولة المقبلة ومؤسساتها. كان من أوائل من تكلم عن أهمية التعليم البديل وضرورة وضع حلول لانقطاع التلاميذ القسري عن مدارسهم، وكان أول من تكلم عن أهمية إنشاء مجالس محلية كخطوة مفصلية لتقدم الثورة. كم كنتَ مُتبصراً وأميناً لكونك مثقفا يا عمر! وكم أشعر بالخجل عندما أستذكر أحاديثك الحماسية في ذلك المقهى الدمشقي وكيف قابلناها مراراً بالإحباط نحن الشباب في أوائل عقدنا الثالث! هو الذي قضى سنوات طويلة يعمل خارج سوريا، قرر أنه باقٍ في دمشق حتى يشهد تتويجها بالحرية، رفض المغادرة هو الذي لم يشكو أبداً من ندرة فرص العمل المغرية في الخارج. أكان حدساً يا عمر أنك ستقضي في مدينتك الأثيرة شهيداً؟ كم هو مبكر ومفجع رحيلك. وكم يشبهك هذا الرحيل! أنت يا من عملت بدأبٍ وصمت، لن تكون حاضراً لتقطف ثمار عملك النبيل. ألم تفعل ذلك مراراً؟ أكان من الضروري تكرار هذا مرة أخرى؟
عندما بلغني رحيلك، خشيتُ التحدث مع عمر وعدي، تكلمنا باقتضاب شديد، كي لا نفضح انكسارنا برحيلك. من سيتحمل الآن نزقنا وقلة حيلتنا في عوالم الفلسفة؟ استرجعتُ رسائلك ومقالاتك القديمة، ونقاشاتك مع عبد الحي السيّد وتعليق ياسين الحاج صالح على النقاش. استعدتُ كلمات عباس بيضون بعد اعتقالك بأيام، أوصانا بأن نلاحقك وأن نعرف أين اقتادوك؟ وحذرنا من مغبة فقدانك هناك؟ أي نبوءة تراجيدية لعباس هذه؟ وأي ذنب سيلاحقنا مدى العمر لأننا لم نفعل شيء لنساعدك، ولم نعرف ماذا حل بك هناك؟
لو تعود يا عمر فأبوح لك بأني مازلت لا أفهم تعقيباتك على كتابات مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، ستبتسم كعادتك مُتفهماً. لو تعود لأعترف لك أني في ذلك اليوم في حي الميدان، عندما فشلت كل محاولاتي لثنيك عن القدوم، وكانت قطعان الأمن والشبيحة تحوم وهي تستعر غضباً، لم أكن أحميك بالادعاء أنك أبي كما قلتُ لك يومها، كنتُ فقط خائفاً كطفل عديم الحيلة، كنت أستمد الثبات منك. لو تعود يا عمر فنكمل المشوار معاً وتبث فينا الحكمة والعزيمة... نعلم أن لا رثاء يليق بك إلا الحرية الكاملة.
لكن... لو تعود يا عمر.