لحظة حوّلتُ الهاتف وأصابعي إلى "مركز"
أنا امرأة تستجيب. تستجيب عاطفياً، تستجيب تكراراً، تستجيب ككل تلميذة نبيهة، تتملذت على يد الفاجعة. هذه الفاجعة جديدة بشكلها، مكررة بقذفها لي، داخل دوامة الحركة التي تصارع الموت. في كل مرّة يقع البلد، كطفل خُلق باحتياجات خاصة، بقلب ضعيف وعظام هشة، أهرع لأستجيب. أولاً وآخراً، لأخنق أصوات الذين لم أستطع يوماً أن أنقذهم. وأنا منهم.
تحمل لي قصص ناس عرفتهم يوماً، تَقرَّر أن يصبحوا غباراً. الناس غبار، لا ثقل لهم سوى ما كُتب عنهم. والكثير الكثير من الصراخ. قصص أهل الضاحية الجنوبية، قصص أهل بقاع البلد العاق، قصص أهل جنوبه، أصبحت صراخاً على شاشة.
لم أعد أستجيب للناس، بل لحروف صراخهم. وميض حروف تحفر بداخلي ممرات ودهاليز وفجوات من نار، ثم تتغلغل بين الجِلد والعصب: "عم يقصفونا. دخيلكن ساعدونا". أمسك بهاتفي. يتوقف كل ما كنت يوماً أظنّه ثابتاً أبدياً: لون يديّ، شكل الطاولة، مواء القطط... تتوقف الحياة. تسحب أشياءها مني، بلطف كبير، وبطء عنيف.
أصدقاء. أقرباء. يقعون. يصرخون، يستنجدون بنا، من وراء شاشة محمول. لم أعد أستطيع تحمّل ما ترميه الشاشة في وجهي. يواجهون بالكلمات من يواجههم بالصواريخ. أسمع الصرخات مكتوبة. أسمع الصلوات محشورة في كيس بلاستيك، فيه أوراق ثبوتية، وزجاجة حليب للأطفال، وبعض المال. جنى العمر الذي يتسع في كيس. وأطفال صامتون. لا أريد للأطفال أن يصمتوا. الحرب، هي صراخ أطفال. الموت، هو حين يصمتون.
لا أذكر اللحظة التي قررت فيها أن أحوّل الهاتف، وأصابعي، إلى "مركز". لا أذكر كيف صرت جزءاً من مجموعات عديدة تعمل في الاستجابة المباشرة للحاجات الأساسية، والتي، البارحة فقط، لم تكن تعتبر حاجة. لا أذكر أني احتجت للأكل، أو الشرب. كانت القهوة كافية لتبقي اصابعي على قيد الحياة، فتلتهب المفاصل، ولا أشعر بوجع. لم أبكِ. لن أبكي.
أتّصل بمدير مدرسة، لأتأكد إن كانَت جاهزة لاستقبال النازحين. رأسي يؤلمني. "حوّلي الناس الى مركز آخر. لا مكان هنا لاستقبالهم".
لستُ على يقين إن كانت استجابتي قراراً واعياً. ولم أتوقف لحظة واحدة لأستفسر عن جدوى أرق امرأة وحدها، تعيش مع قطط مرقطة ومتطلبة، لا تخرج كثيراً، وتنهار كثيراً، امرأة تقذف نفسها قذفاً داخل الحركة، ولو كانت هذه الحركة، اتصالاً وكلمات على شاشة.
لعلني صدّقت، مع التكرار، بأن الدولة لا قدرة لها على الاستجابة، لأنها ليست امرأة وحدها تنهار كثيراً. لعلني صدّقت، مع التكرار، بأن الجمعيات كما الكنائس والمساجد، لا قدرة لديها على الاستجابة، لأنها ليست امرأة وحدها، تتماهى وصراخ الآخرين، لأنها فقدت صوتها لشدة ما صرخت.
أنا مُستجيبة عضوية. أسرق المصطلح ممن كتبوا عن غرامشي، وأعرّيه من ثقل الثقافة التي يحمل. ولدتُ في أسرة متواضعة. عانيتُ المرض، طريحة الفراش، بسبب التهابات رئوية قيل لأمي بأني لن أشفى منها. عانيتُ التهجير، أنا الإبنة الرابعة. عانيت التشرد، النزوح، البرد. نمتُ لياليَ في جاط استحمام لأن لا سرير متوافراً. كنت يتيمة البيت.
من موقعي هذا، من تاريخي هذا، من حملي على كتفيّ اللذين يعانيان اليوم التهابات المفاصل، أستجيب. الاستجابة ليست فعلاً إنسانياً، ولا حساسية ولا واجباً. الاستجابة قَدَرية، لأنها قصة طفلة مريضة لن تشفى يوماً. فكل ما نمر به اليوم، ورغم فداحة وقعه، مألوف. إنها الألفة الفظيعة.
تحمل لي قصص ناس عرفتهم يوماً، تَقرَّر أن يصبحوا غباراً. الناس غبار، لا ثقل لهم سوى ما كُتب عنهم. والكثير الكثير من الصراخ. قصص أهل الضاحية الجنوبية، قصص أهل بقاع البلد العاق، قصص أهل جنوبه، أصبحت صراخاً على شاشة.
لم أعد أستجيب للناس، بل لحروف صراخهم. وميض حروف تحفر بداخلي ممرات ودهاليز وفجوات من نار، ثم تتغلغل بين الجِلد والعصب: "عم يقصفونا. دخيلكن ساعدونا". أمسك بهاتفي. يتوقف كل ما كنت يوماً أظنّه ثابتاً أبدياً: لون يديّ، شكل الطاولة، مواء القطط... تتوقف الحياة. تسحب أشياءها مني، بلطف كبير، وبطء عنيف.
أصدقاء. أقرباء. يقعون. يصرخون، يستنجدون بنا، من وراء شاشة محمول. لم أعد أستطيع تحمّل ما ترميه الشاشة في وجهي. يواجهون بالكلمات من يواجههم بالصواريخ. أسمع الصرخات مكتوبة. أسمع الصلوات محشورة في كيس بلاستيك، فيه أوراق ثبوتية، وزجاجة حليب للأطفال، وبعض المال. جنى العمر الذي يتسع في كيس. وأطفال صامتون. لا أريد للأطفال أن يصمتوا. الحرب، هي صراخ أطفال. الموت، هو حين يصمتون.
لا أذكر اللحظة التي قررت فيها أن أحوّل الهاتف، وأصابعي، إلى "مركز". لا أذكر كيف صرت جزءاً من مجموعات عديدة تعمل في الاستجابة المباشرة للحاجات الأساسية، والتي، البارحة فقط، لم تكن تعتبر حاجة. لا أذكر أني احتجت للأكل، أو الشرب. كانت القهوة كافية لتبقي اصابعي على قيد الحياة، فتلتهب المفاصل، ولا أشعر بوجع. لم أبكِ. لن أبكي.
أتّصل بمدير مدرسة، لأتأكد إن كانَت جاهزة لاستقبال النازحين. رأسي يؤلمني. "حوّلي الناس الى مركز آخر. لا مكان هنا لاستقبالهم".
لستُ على يقين إن كانت استجابتي قراراً واعياً. ولم أتوقف لحظة واحدة لأستفسر عن جدوى أرق امرأة وحدها، تعيش مع قطط مرقطة ومتطلبة، لا تخرج كثيراً، وتنهار كثيراً، امرأة تقذف نفسها قذفاً داخل الحركة، ولو كانت هذه الحركة، اتصالاً وكلمات على شاشة.
لعلني صدّقت، مع التكرار، بأن الدولة لا قدرة لها على الاستجابة، لأنها ليست امرأة وحدها تنهار كثيراً. لعلني صدّقت، مع التكرار، بأن الجمعيات كما الكنائس والمساجد، لا قدرة لديها على الاستجابة، لأنها ليست امرأة وحدها، تتماهى وصراخ الآخرين، لأنها فقدت صوتها لشدة ما صرخت.
أنا مُستجيبة عضوية. أسرق المصطلح ممن كتبوا عن غرامشي، وأعرّيه من ثقل الثقافة التي يحمل. ولدتُ في أسرة متواضعة. عانيتُ المرض، طريحة الفراش، بسبب التهابات رئوية قيل لأمي بأني لن أشفى منها. عانيتُ التهجير، أنا الإبنة الرابعة. عانيت التشرد، النزوح، البرد. نمتُ لياليَ في جاط استحمام لأن لا سرير متوافراً. كنت يتيمة البيت.
من موقعي هذا، من تاريخي هذا، من حملي على كتفيّ اللذين يعانيان اليوم التهابات المفاصل، أستجيب. الاستجابة ليست فعلاً إنسانياً، ولا حساسية ولا واجباً. الاستجابة قَدَرية، لأنها قصة طفلة مريضة لن تشفى يوماً. فكل ما نمر به اليوم، ورغم فداحة وقعه، مألوف. إنها الألفة الفظيعة.