هل ستعيش إسرائيل حتى ذاك الوقت؟
مع كلّ تطوّر تكنولوجي، ينتشي العقل البشري وتحزن الإنسانية. مما لا شكّ فيه إن هذا المخلوق العاقل الوحيد، هو كائن جبّار، دؤوب، وطموح، إلا أن الفلاسفة لم يحسموا أصالة الخير والشرّ فيه، ولا حتى الأديان. فهو المخيّر والمسيّر، يمضي بدافع الخير الفطري، إلا أنه يحمل غريزة الموت على كتفه. وكما يحلّ المشرَط مثالاً ناجعاً يستدلّ به في معظم النقاشات: "السكين في يد المجرم شرّ قاتل، وفي يد الطبيب نجاة"، إلا أننا نهلّل ونرحب بكل تطور يذلّل لنا سبل العيش.
أذكر جيداً اختراع الهاتف اللاسلكي. لمحناه بإعجاب في المسلسلات قبل اقتنائه. وفّر لنا رفاهية التنقل والحديث بأريحية. تفور قهوتنا على البوتغاز فنمسحها ونحن نتحدث مع صديق. لم نأبه لما يسمى "اختراقاً"، فالنميمة مباحة ومشروعة في المكالمات الهاتفية كما المنزلية.
في الأيام المنصرمة، تحوّلت تلك الرفاهية إلى لعنة، جعلت الدهشة تفغر فاهها. لم أكترث للتحليل العسكري، وإن كان الطرف المستهدف سيردّ بعد أن يستفيق من صدمته، أم أنه عاجز، وإن كانت طبول الحرب ستعلو أكثر من ذلك. ولم آبه للتحليل التقني وعن كيفية سدّ هكذا اختراقات رقمية مستقبلاً. ولم تشغلني آلية الاختراق أكثر من تسببها بالضرر المباشر للآلاف، بعد أصوات النجدة، وهول المشهد الذي اعتاده لبنان ولم يألفه أبناؤه. في كل مرة، تقودهم لعنة المفاجأة إلى هاوية جديدة، دم وأصوات إسعاف، إعلان الطواقم الطبية أعلى درجات الاستنفار. لكني بعدما صحوت من هذا كله، جاء السؤال: ماذا بعد؟!
هل نجحت إسرائيل في استدراج المبادئ وإحراقها في هولوكوست ضخم؟ في كل معمعة، طرفان متنافران، على الأقل، يطلان بعنقين طويلتين. الخير والشر. نعرفهما في الكتب المدرسية وأفلام الكرتون وحكايا الجدات. إلا أنهما، مع الوقت يتماهيان، بل ويتبادلان المواقع في نشرات الأخبار. ومع انتشار منصّات التواصل التي وزّعت المنابر بالمجان (وهذا جيد في العموم) فقد أعطانا ذلك فرصة التعرف على خبايا مجتمع نعيش فيه ونجهل نواياه. سرعان ما يُهمَل الخبر وينهمك الجميع في التراشق. فمقصلة الحقّ هنا تعني التشفّي والشماتة بهلاك مَن يعتبرونه ظالماً، غدرَ بأمنهم وأمانهم، في حين يردّ أصحاب الضفة المقابلة بعبارات مثقفة واعية تجلد بسياط لاسعة ما يسمونه "سذاجة وأحقاداً غبية". لنصل إلى منتهى نفق الجدال، فنجد وسم الخيانة فاتحاً ذراعيه يتسّع للجميع.
أقف على السراط. أترفع عن أي جدال. أراقب طرفَي الجحيم. لا نعيم هنا سوى الصمت! أتنحنح لأتكلم عن حرمة الموت. تضحكني نكتة هنا وتهكّم هناك. ألوم نفسي، وأشعر بالذنب، وأحاول تصديق أنصار العقل. أقرأ شتائمهم ومكانة منحوها لأنفسهم تجعلهم في خانة تزدري الآخر وتنبذه حدّ التعصب. أتريث قليلاً، وأشيح بعينيّ عن شِرك منشور يُحاكم بإسم الدين. العدو خلف الباب، وكل ما يشغلهم هو إن كان الترحّم على غير المسلم جائزاً. هل يجوز لنا شرعاً إلحاق لقب "شهيدة" بشيرين أبو عاقلة، أم أننا نأثم من دون دراية؟!
هل أنا الوحيدة الخائفة هنا؟ أدور حول نفسي وأردّد: ماذا بعد؟ كيف سيكون شكل الغلّ البشري في المرة المقبلة؟ هل سيستعين عدونا بمخلوقاتٍ من المريخ لخرق الحرمات من بُعد، ويجلس على مقاعده الجلدية المريحة يتفرج ويرفع نخب عجزنا؟
مؤكد سيدرس أولادنا ما أربكنا اليوم. سيناقشون الهجوم"السيبراني" كما لو كان مصطلحاً أليفاً. نعم، فهذا زمانهم المختلف عما عشناه نحن. ثم سيأتيهم مصطلح يُشعرهم بالجهل والعجز، وسيرددون: حان وقت الجيل الثالث، ليخوض معركة المصطلحات نيابة عنا. هل ستعيش إسرائيل حتى ذاك الوقت؟ مَن يدري؟ إنما بات جليّاً أننا -وليتني أكون مخطئة!- سنظل نتناحر بحُكم غريزة الموت، ونتراشق تحت لواء الدين الذي نفُصّله على مقاس عقولنا.