عاد أيلول..فهل سأُبلي حسناً مثل أمّي؟
"رجع أيلول وإنت بعيد"، غنّت فيروز.
مع اقتراب الشهر التاسع من كل عام، اعتدنا عبارات الحنين، مقاطع مرئية تفوح منها رائحة البن، أيادي عشّاق تلوّح لرحيلٍ يطالب باستحقاقاته. نعم، كل هذا الأصفر الذهبي الحزين يخصّ أيلول. له من اسمه نصيب. فشهر العويل ينتحب على دروب المسافرين بعدما أمضوا إجازاتهم السنوية في ربوع أهل وأصحاب وحان وقت الغياب من جديد.
هو موسم الدأب أيضاً، شهر المؤونة، تحضيرات العودة للعام الدراسي، مريول وقرطاسية، ومؤخراً أقساط مدرسية وجامعية كانت سابقاً من ضروب النكتة إذا ما قلنا سعة خيال. فالقطاع التعليمي الخاص بات بدعة مُستحدثة بعد أسباب عديدة اختلف فيها المحللون، لست بصدد إيرادها، فجرابٌ أصفر معتّق يجود بالجمال والشِعر لا شأن للتحليلات والمشكلات به.
لنتفق بدايةً أني لست من عشّاقه، لا رومانسية لأيلول في هذه البلاد. قلّما نستشعر نسماته الباردة بعد انحسار الغطاء النباتي بفعل الحرب والجفاف. لطالما حمّلني بالخيبات والغصّات. ينفرط عقد العائلة بعدما عاشت نشوة العطلة، تبهت فيه الشمس فيفتر حرّها وتحتار، لا أحب أنصاف الحلول. يعتمدها أيلول. يزاوج بين لونين فيكون مزاجهما المتردّد. لا استقرار إلا بانقضائه، حينها يُحسم الأمر كما يقول أبو نواس في بيتٍ جعلني ألهث وراء المعنى لألتمسه مجازاً ساحراً: "مضى أيلول وارتفع الْحُرُور/وأذْكَتْ نارَها الشِعرى العَبُور"، لأدرك حكاية استمطار العرب قديماً مع نجمٍ بمثابة إله اسمه "الشِعرى العَبُور".
لا تجذبني مزاجية أيلول، والتي قد تشيع اكتئاباً موسمياً، يفسّره العِلم بتأثير أشعة الشمس المنخفضة على جزء الدماغ، فيتباين إفراز هرمونات السيروتونين والميلاتونين المسؤولة عن الشهية والنوم، كما ينجب لنا مواليد تمارس الخجل بخفر طيلة حياتها. وحدها رائحة الصف العتيقة، الكتب الجديدة بأوراقها ذات الحواف الجارحة، الممحاة المعطّرة تغري الشهية بقضمة، الجوارب البيضاء. تفاصيل كدّسها شهر الخريف في الذاكرة، التي ما فتئت ترتّب الخطوات ذاتها وقد غدوت أمّاً. وبالرغم من انقراض بعض التفاصيل، كالبطاقات اللاصقة المخصصة لكتابة اسم الطالب، أقلّد أمي بتغطية كتب ابني بالتجليد الشفّاف، أبذّر نصائح الاجتهاد وتنظيم الوقت، أخبّئ المبراة كي لا تأثم الحماسة فتقصّر أقلام الرصاص.
في كل فعل وردّ فعل، أحرص أن يتجاوز ولدي كل ما قضّ مضجعي المدرسي حين كنت في عمره. أتأهب لأزرع في ذاكرته الأيلولية ما يبني نوستالوجيا تدوم، امتنان لمبادرة تحيي في قلبه ورقة صفراء كلّما مرّت في الخاطر، كتلك التي جاد أبي بها يوماً: ابتاع لي نسخة عن حذاء صديقتي الشامواه بكعبه الفلين، وقد يستغرب أحدكم بأن ذلك التصرف الأبوي، على بساطته، اصطادته الذاكرة فما أسقطته أبداً.
لم يكن التباين الطبقي يعني لنا شيئاً، نحن الصغار، ربما لمحدوديته. لكن ماذا عن يومنا هذا؟ وقد أصبحت الأجهزة الذكية من ضمن القرطاسية، كذلك قصّات الشعر وقرطاسية التسوق الالكتروني وغيرها...
هل بإمكاني اليوم المساعدة في حلّ مشكلات تتزامن مع بدء عام دراسي، لم تمرّ علي ولا على زماني؟ كيف أقنع إبني بأهمية المقعد الأول للجدّ والتميز، وهو يردّد: "كلن متل بعض". ماذا لو تعرّض لظلم ممنهج؟ هل سأبلي حسناً كأمّي؟! أتمنى ذلك، إلا أني سأبرر فشلي، لا سيما أن أكبر مشكلة مدرسية عالقة في ذهني إلى اليوم هي حين أنكرتُ على معلمتي في إحدى الصفوف تصرفها الإشتراكي المرعب. وتلبية لرغبتي الملّحة سأسردها هنا، ربما كنوع من البوح المريح...
كانت المعلّمة تجعلنا نكوّم شطائرنا عند السبورة، وفي لحظة قرع جرس انتهاء الحصة، تهرول الطالبات وتنتقي كل منهن شطيرة الحظ، في خطوة لتلافي فوارق طبقية. كان حظي الأسود يقودني، وفي أفضل الأحوال، إلى رغيف بفلقتين ينضح منه زيت أحمر ويفوح برائحة "المكدوس" القديمة، في حين أدوّر طوال فُرصة الاستراحة عن سعيدة الحظ التي حظيت "بصمونة" الكيري أو المرتديلا خاصّتي. تكررت هويتها، الفتاة الفائزة بسندويشتي، حتى تبينتُ اللعبة، هي خطّة عبيدة الممنهجة إذاً في اصطياد غنائمها. كان الحلّ الأمومي حاسماً، فراحت أمي تحمّلني شطيرتَين، واحدة لنظامٍ إشتراكي مجحف، وأخرى ذخيرة أبقيها سرّاً في حقيبتي تنقذها من التأميم.
اليوم وأنا أراقب مشكلات ولدي، أقترح الحل تلو آخر. تخيب الحلول جميعها. أستمع لأخرى منه تتناسب وعصره. حلول فذّة من خارج الصندوق، مستوردة من الفضاء أحياناً. فردّ العنف بالعنف، ووضع حدّ للتنمر بالشكوى للإدارة، كانت من مُسلَّمات جيلنا، إلا أن ابني يراها بلا جدوى. فمصادقة المتنمّر لجعله حليفاً يُعتمد عليه، قد يكون أنسب من مواجهته، إذ أن الشكوى لم تعد تحرّك ساكناً خصوصاً مع اتسّاع هوة الواسطة. إضافة إلى ثقافة الانتقام المرعبة، فلم يعد العنف ينقضي بالشجار. بل بتنا نسمع عن إسعاف وطوارئ وقضايا تُرفع، عيون تفقد بصرها، نقرأ عجائب تصل إلى حدّ القتل في المدارس. حتى المغريات لم تعد تتمثل في قلم متعدد الألوان أو حذاء شامواه. فتبديل الجهاز الذكي وترقيته لجيل أحدث، من المسلّمات، وأنا الأم الصامدة حتى الآن تصرّ على أنه من الممنوعات. يحاول معي ولدي بشتى مواهب الإقناع التي يملك، وأرفض بالقطع اقتناءه هاتفاً خلوياً. في كل مرة يفقد ابني مَقلَمة أو محتويات اللانش بوكس، لا يشتكي للمعلمة، في رأيه هذه مضيعة للوقت، بل يراقب ويراقب لعلّه يحظى بأغراضه، ينصب "الأفخاخ" بحسب قوله، والتي لا تجدي نفعاً بحسب قناعاتي، نتجادل ونتناقش مطوّلاً، وسرعان ما تطرق ذاكرتي كفّاً بكفّ معلنةً: لكل جيل مشاكله، ولكل أيلول عودة.
مع اقتراب الشهر التاسع من كل عام، اعتدنا عبارات الحنين، مقاطع مرئية تفوح منها رائحة البن، أيادي عشّاق تلوّح لرحيلٍ يطالب باستحقاقاته. نعم، كل هذا الأصفر الذهبي الحزين يخصّ أيلول. له من اسمه نصيب. فشهر العويل ينتحب على دروب المسافرين بعدما أمضوا إجازاتهم السنوية في ربوع أهل وأصحاب وحان وقت الغياب من جديد.
هو موسم الدأب أيضاً، شهر المؤونة، تحضيرات العودة للعام الدراسي، مريول وقرطاسية، ومؤخراً أقساط مدرسية وجامعية كانت سابقاً من ضروب النكتة إذا ما قلنا سعة خيال. فالقطاع التعليمي الخاص بات بدعة مُستحدثة بعد أسباب عديدة اختلف فيها المحللون، لست بصدد إيرادها، فجرابٌ أصفر معتّق يجود بالجمال والشِعر لا شأن للتحليلات والمشكلات به.
لنتفق بدايةً أني لست من عشّاقه، لا رومانسية لأيلول في هذه البلاد. قلّما نستشعر نسماته الباردة بعد انحسار الغطاء النباتي بفعل الحرب والجفاف. لطالما حمّلني بالخيبات والغصّات. ينفرط عقد العائلة بعدما عاشت نشوة العطلة، تبهت فيه الشمس فيفتر حرّها وتحتار، لا أحب أنصاف الحلول. يعتمدها أيلول. يزاوج بين لونين فيكون مزاجهما المتردّد. لا استقرار إلا بانقضائه، حينها يُحسم الأمر كما يقول أبو نواس في بيتٍ جعلني ألهث وراء المعنى لألتمسه مجازاً ساحراً: "مضى أيلول وارتفع الْحُرُور/وأذْكَتْ نارَها الشِعرى العَبُور"، لأدرك حكاية استمطار العرب قديماً مع نجمٍ بمثابة إله اسمه "الشِعرى العَبُور".
لا تجذبني مزاجية أيلول، والتي قد تشيع اكتئاباً موسمياً، يفسّره العِلم بتأثير أشعة الشمس المنخفضة على جزء الدماغ، فيتباين إفراز هرمونات السيروتونين والميلاتونين المسؤولة عن الشهية والنوم، كما ينجب لنا مواليد تمارس الخجل بخفر طيلة حياتها. وحدها رائحة الصف العتيقة، الكتب الجديدة بأوراقها ذات الحواف الجارحة، الممحاة المعطّرة تغري الشهية بقضمة، الجوارب البيضاء. تفاصيل كدّسها شهر الخريف في الذاكرة، التي ما فتئت ترتّب الخطوات ذاتها وقد غدوت أمّاً. وبالرغم من انقراض بعض التفاصيل، كالبطاقات اللاصقة المخصصة لكتابة اسم الطالب، أقلّد أمي بتغطية كتب ابني بالتجليد الشفّاف، أبذّر نصائح الاجتهاد وتنظيم الوقت، أخبّئ المبراة كي لا تأثم الحماسة فتقصّر أقلام الرصاص.
في كل فعل وردّ فعل، أحرص أن يتجاوز ولدي كل ما قضّ مضجعي المدرسي حين كنت في عمره. أتأهب لأزرع في ذاكرته الأيلولية ما يبني نوستالوجيا تدوم، امتنان لمبادرة تحيي في قلبه ورقة صفراء كلّما مرّت في الخاطر، كتلك التي جاد أبي بها يوماً: ابتاع لي نسخة عن حذاء صديقتي الشامواه بكعبه الفلين، وقد يستغرب أحدكم بأن ذلك التصرف الأبوي، على بساطته، اصطادته الذاكرة فما أسقطته أبداً.
لم يكن التباين الطبقي يعني لنا شيئاً، نحن الصغار، ربما لمحدوديته. لكن ماذا عن يومنا هذا؟ وقد أصبحت الأجهزة الذكية من ضمن القرطاسية، كذلك قصّات الشعر وقرطاسية التسوق الالكتروني وغيرها...
هل بإمكاني اليوم المساعدة في حلّ مشكلات تتزامن مع بدء عام دراسي، لم تمرّ علي ولا على زماني؟ كيف أقنع إبني بأهمية المقعد الأول للجدّ والتميز، وهو يردّد: "كلن متل بعض". ماذا لو تعرّض لظلم ممنهج؟ هل سأبلي حسناً كأمّي؟! أتمنى ذلك، إلا أني سأبرر فشلي، لا سيما أن أكبر مشكلة مدرسية عالقة في ذهني إلى اليوم هي حين أنكرتُ على معلمتي في إحدى الصفوف تصرفها الإشتراكي المرعب. وتلبية لرغبتي الملّحة سأسردها هنا، ربما كنوع من البوح المريح...
كانت المعلّمة تجعلنا نكوّم شطائرنا عند السبورة، وفي لحظة قرع جرس انتهاء الحصة، تهرول الطالبات وتنتقي كل منهن شطيرة الحظ، في خطوة لتلافي فوارق طبقية. كان حظي الأسود يقودني، وفي أفضل الأحوال، إلى رغيف بفلقتين ينضح منه زيت أحمر ويفوح برائحة "المكدوس" القديمة، في حين أدوّر طوال فُرصة الاستراحة عن سعيدة الحظ التي حظيت "بصمونة" الكيري أو المرتديلا خاصّتي. تكررت هويتها، الفتاة الفائزة بسندويشتي، حتى تبينتُ اللعبة، هي خطّة عبيدة الممنهجة إذاً في اصطياد غنائمها. كان الحلّ الأمومي حاسماً، فراحت أمي تحمّلني شطيرتَين، واحدة لنظامٍ إشتراكي مجحف، وأخرى ذخيرة أبقيها سرّاً في حقيبتي تنقذها من التأميم.
اليوم وأنا أراقب مشكلات ولدي، أقترح الحل تلو آخر. تخيب الحلول جميعها. أستمع لأخرى منه تتناسب وعصره. حلول فذّة من خارج الصندوق، مستوردة من الفضاء أحياناً. فردّ العنف بالعنف، ووضع حدّ للتنمر بالشكوى للإدارة، كانت من مُسلَّمات جيلنا، إلا أن ابني يراها بلا جدوى. فمصادقة المتنمّر لجعله حليفاً يُعتمد عليه، قد يكون أنسب من مواجهته، إذ أن الشكوى لم تعد تحرّك ساكناً خصوصاً مع اتسّاع هوة الواسطة. إضافة إلى ثقافة الانتقام المرعبة، فلم يعد العنف ينقضي بالشجار. بل بتنا نسمع عن إسعاف وطوارئ وقضايا تُرفع، عيون تفقد بصرها، نقرأ عجائب تصل إلى حدّ القتل في المدارس. حتى المغريات لم تعد تتمثل في قلم متعدد الألوان أو حذاء شامواه. فتبديل الجهاز الذكي وترقيته لجيل أحدث، من المسلّمات، وأنا الأم الصامدة حتى الآن تصرّ على أنه من الممنوعات. يحاول معي ولدي بشتى مواهب الإقناع التي يملك، وأرفض بالقطع اقتناءه هاتفاً خلوياً. في كل مرة يفقد ابني مَقلَمة أو محتويات اللانش بوكس، لا يشتكي للمعلمة، في رأيه هذه مضيعة للوقت، بل يراقب ويراقب لعلّه يحظى بأغراضه، ينصب "الأفخاخ" بحسب قوله، والتي لا تجدي نفعاً بحسب قناعاتي، نتجادل ونتناقش مطوّلاً، وسرعان ما تطرق ذاكرتي كفّاً بكفّ معلنةً: لكل جيل مشاكله، ولكل أيلول عودة.