لماذا لا تكتبين القصص؟
أكتب وأُخطئ وأمحو مراراً، فأنا لم أعتد استخدام يدي اليسرى في الكتابة من قبل، لكن لا بد من استخدامها الآن كما قال الطبيب وهو يضمد معصم يدي اليمنى بعد رضّ قوي إثر تعثري، تعثر لم يخطر لي بعده سوى أمر واحد:... وأعمال المنزل؟!!
ينقلب البيت أمام ناظريَّ إلى ساحة فوضى لم أر مثلها يوماً. ملابس، كتب، ألعاب، تخرج معظم أواني المطبخ من أماكنها، ويتحول الحمّام إلى بركة سباحة، وتتماوج أمامي مئات أوراق الملوخية الخضراء التي اشتريتها قبل يوم واحد، وَلابد من إنهاء فرزها.
يتذمر أولادي من مهمة لا يرونها منطقية، الجلوس لساعات لاستبعاد الأوراق الصفراء والتالفة، انتقاء الأوراق الطازجة، التخلص من أعناقها الصغيرة، حتّى تُكمل أشعة الشمس المهمة بتحويلها لأوراق يابسة صالحة للتخزين.
أشعر بالنعاس وتختلط في رأسي الأصوات والصور، وأغفو تحت تأثير المسكن.
لا أطلب مساعدة زوجي. نقاش حاد حول الموضوع في بداية زواجنا، جعلني أقرر تولّي كل أمور البيت بنفسي. وبقدر ما كان الاهتمام بالبيت والأطفال ممتعاً، فقد كان أيضاً مربكاً ومرهقاً وشاقاً لدرجة لا تفهمها سوى الأمهات.
كنت في العاشرة حين بدأت الفتيات في المدرسة التحدث عن آبائهن. ورغم أن الفتيات كن يقصدن التفاخر بآباء لا يساعدون في المنزل، آباء يعتبرون البيوت أمكنة للاسترخاء وإصدار الأوامر فقط، إلا أن صورهم ارتسمت كوحوش في مخيلتي الصغيرة. حينها، لم أجد ما أشارك به في ذلك الحديث فأنا لم أعرف هذا النظام الأبوي حتى تزوجت.
الآن صار بإمكان أولادي المساعدة، يفهم ابني تماماً أن العمل في المنزل ليس حكراً على الإناث، وَيساعدني كما تفعل ابنتاي.
كثيرون يختزلون كتاب فرجينيا وولف، "غرفة تخص المرء وحده"، بعبارة واحدة: غرفة ودخل منتظم لتتمكن المرأة من الكتابة. لكن هل سيترك الأطفال، عند وجودهم، باب الغرفة موصداً؟ ألن يُطرق عشرات المرات؟ لم تعد وولف موجودة لنطرح عليها السؤال، هي التي لم تنجب أطفالاً.
وجود أطفال يعني تدمير كل القواعد، الأسئلة التي لا تنتهي، طلب النجدة للمساعدة في أمور لا تخطر في بال، لفك الاشتباكات، للبحث عن الأشياء المفقودة، للشعور بالجوع بين الوجبات، هذا خلال وقت مستقطع تحاول فيه الأم أن تكون بمفردها. وجود أطفال يعني ساعات من الجلوس بجانبهم لإنهاء الوظائف، إعادة شرح الدروس للتأكد من فهمها، التحضير للمذاكرات والامتحانات.
تساعدني ابنتاي في نشر الغسيل، وبينما تتجادلان حول اقتسام الغسيل، أحاول الإسراع للاستفادة من شمس الظهيرة. أحياناً، يبدو شرح ما يتوجب عمله، أصعب بكثير من القيام به، حتى ولو بيد واحدة!
قد يتكرر نشر الغسيل مرات عديدة في اليوم، إعادته وطيّه وتوزيعه. يتكرر كما باقي الأعمال، التنظيف، غسل الفواكه والخضار، الجلي الذي لا يتوقف، الطهو... تلك المهمة اليومية الأثقل، المهمة التي قد تستهلك ساعات. لذا، وتوفيراً للوقت، صرت أتصفح فايسبوك، أتفقد رسائل الواتسآب، وأستمع للأخبار بينما أنتظر إناءً ليغلي، أو طعاماً لينضج.
وَفي مثل هذه الأيام تزيد المهام أضعافاً، مع تحضير المؤونة. تلك المهمة التي لا بد لكل امرأة من القيام بها كنملة مجتهدة قبل حلول الشتاء...
أخاف أحياناً أن تمضي حياتي كما مضت حياة جدتي، بين جدران المطبخ. تُلوح خبز التنور أو تُحضر الطعام أو تُعدّ المؤونة أو تنظف البيت الذي لا يخلو من الزائرين.
كانت جدتي مولعة بالقراءة، وربما لو أتيحت لها الفرصة، لحاولت أن تحقق حلمها في الكتابة. قبل عقدين من الزمن، وفي زيارة لصديقاتي اليابانيات إلى منزلها، أذهلتهن براعتها في الخياطة، الحياكة، أعمال القش الملون المدهشة، تصميم الملابس والحقائب. أذهلتهن نكهة الطعام ولذة الحلويات والمُربَّيات... نشاط وحيوية امرأة خطت في الثمانين.
لم يتحقق شيء من أحلام جدتي، بل تبخرت بين جدران مطبخها، وتوفيت جراء خطأ جراحي مؤلم. تلك الفتاة التي اختبأت يوماً بين أغصان شجرة لِتُكمل قراءة كتاب عثرت عليه صدفة، لم يتسن لها أن تتابع تعليمها، بل تمّ تزويجها لتكون ربة منزل في الخامسة عشرة، ربة منزل لم تتمكن من التفرغ للقراءة إلّا حينَ أمست عجوزاً. ألا تستحق المرأة في بلادنا، وحدها، ثورة؟!
تأتي إجابة سلوى بكر على سؤال "لماذا لا تكتبين القصص؟"، بين سطور قصتها التي قرأتها في مجلة "العربي" قبل ربع قرن. أُعيد قراءتها مجدداً، وأبتسم فيما أقرأ معاناة "مدام ناهد" مع صعوبة الحصول على وقت تخلو فيه إلى نفسها، لتكتب قصة طلبها أحد المنتجين. وبين ضرب العيال واحتراق الطعام والتقصير في العمل، تسير أحداث القصة التي تنتهي بسؤال آخر: لماذا لا يكتب زوجها القصص؟
قصة سلوى بكر تضرب عرض الحائط بضرورة الغرفة والدخل المنتظم. فالفوضى والأعمال المنزلية التي لا تنتهي، لإمرأة من الطبقة المتوسطة مع أطفال وزوج غير متعاون، لن تجدي معها أي قواعد. ولو أن فرجينيا وولف تعيش هنا الآن في سوريا، بيننا، لأدركت أيضاً أن الأمر أكثر تعقيداً بكثير. غالبية العائلات هنا تتكوم في غرفة واحدة شتاءً، غرفة بالكاد يستطيعون تدفئتها وإضاءتها.
أتمنى أحياناً أن أُلقي بنفسي على كومة قش، كما تمنت مدام ناهد في القصة، أن أستريح أثناء النهار الذي يبدأ وكأنه قطع بازل مبعثرة للوحة لا تكتمل إلا في نهايته.
أشعر بالبرودة تسري في يدي وأنا أغير الضماد الكحولي، يا تُرى لو جاز لي أن أُغير أمراً في قصة سلوى بكر! لاستبدلت السؤال الذي تختم به قصتها، "لماذا لا يكتب زوجها عبد العزيز القصص؟"، بسؤال آخر: لماذا لا يقرأ الأزواج القصص؟
يتذمر أولادي من مهمة لا يرونها منطقية، الجلوس لساعات لاستبعاد الأوراق الصفراء والتالفة، انتقاء الأوراق الطازجة، التخلص من أعناقها الصغيرة، حتّى تُكمل أشعة الشمس المهمة بتحويلها لأوراق يابسة صالحة للتخزين.
أشعر بالنعاس وتختلط في رأسي الأصوات والصور، وأغفو تحت تأثير المسكن.
لا أطلب مساعدة زوجي. نقاش حاد حول الموضوع في بداية زواجنا، جعلني أقرر تولّي كل أمور البيت بنفسي. وبقدر ما كان الاهتمام بالبيت والأطفال ممتعاً، فقد كان أيضاً مربكاً ومرهقاً وشاقاً لدرجة لا تفهمها سوى الأمهات.
كنت في العاشرة حين بدأت الفتيات في المدرسة التحدث عن آبائهن. ورغم أن الفتيات كن يقصدن التفاخر بآباء لا يساعدون في المنزل، آباء يعتبرون البيوت أمكنة للاسترخاء وإصدار الأوامر فقط، إلا أن صورهم ارتسمت كوحوش في مخيلتي الصغيرة. حينها، لم أجد ما أشارك به في ذلك الحديث فأنا لم أعرف هذا النظام الأبوي حتى تزوجت.
الآن صار بإمكان أولادي المساعدة، يفهم ابني تماماً أن العمل في المنزل ليس حكراً على الإناث، وَيساعدني كما تفعل ابنتاي.
كثيرون يختزلون كتاب فرجينيا وولف، "غرفة تخص المرء وحده"، بعبارة واحدة: غرفة ودخل منتظم لتتمكن المرأة من الكتابة. لكن هل سيترك الأطفال، عند وجودهم، باب الغرفة موصداً؟ ألن يُطرق عشرات المرات؟ لم تعد وولف موجودة لنطرح عليها السؤال، هي التي لم تنجب أطفالاً.
وجود أطفال يعني تدمير كل القواعد، الأسئلة التي لا تنتهي، طلب النجدة للمساعدة في أمور لا تخطر في بال، لفك الاشتباكات، للبحث عن الأشياء المفقودة، للشعور بالجوع بين الوجبات، هذا خلال وقت مستقطع تحاول فيه الأم أن تكون بمفردها. وجود أطفال يعني ساعات من الجلوس بجانبهم لإنهاء الوظائف، إعادة شرح الدروس للتأكد من فهمها، التحضير للمذاكرات والامتحانات.
تساعدني ابنتاي في نشر الغسيل، وبينما تتجادلان حول اقتسام الغسيل، أحاول الإسراع للاستفادة من شمس الظهيرة. أحياناً، يبدو شرح ما يتوجب عمله، أصعب بكثير من القيام به، حتى ولو بيد واحدة!
قد يتكرر نشر الغسيل مرات عديدة في اليوم، إعادته وطيّه وتوزيعه. يتكرر كما باقي الأعمال، التنظيف، غسل الفواكه والخضار، الجلي الذي لا يتوقف، الطهو... تلك المهمة اليومية الأثقل، المهمة التي قد تستهلك ساعات. لذا، وتوفيراً للوقت، صرت أتصفح فايسبوك، أتفقد رسائل الواتسآب، وأستمع للأخبار بينما أنتظر إناءً ليغلي، أو طعاماً لينضج.
وَفي مثل هذه الأيام تزيد المهام أضعافاً، مع تحضير المؤونة. تلك المهمة التي لا بد لكل امرأة من القيام بها كنملة مجتهدة قبل حلول الشتاء...
أخاف أحياناً أن تمضي حياتي كما مضت حياة جدتي، بين جدران المطبخ. تُلوح خبز التنور أو تُحضر الطعام أو تُعدّ المؤونة أو تنظف البيت الذي لا يخلو من الزائرين.
كانت جدتي مولعة بالقراءة، وربما لو أتيحت لها الفرصة، لحاولت أن تحقق حلمها في الكتابة. قبل عقدين من الزمن، وفي زيارة لصديقاتي اليابانيات إلى منزلها، أذهلتهن براعتها في الخياطة، الحياكة، أعمال القش الملون المدهشة، تصميم الملابس والحقائب. أذهلتهن نكهة الطعام ولذة الحلويات والمُربَّيات... نشاط وحيوية امرأة خطت في الثمانين.
لم يتحقق شيء من أحلام جدتي، بل تبخرت بين جدران مطبخها، وتوفيت جراء خطأ جراحي مؤلم. تلك الفتاة التي اختبأت يوماً بين أغصان شجرة لِتُكمل قراءة كتاب عثرت عليه صدفة، لم يتسن لها أن تتابع تعليمها، بل تمّ تزويجها لتكون ربة منزل في الخامسة عشرة، ربة منزل لم تتمكن من التفرغ للقراءة إلّا حينَ أمست عجوزاً. ألا تستحق المرأة في بلادنا، وحدها، ثورة؟!
تأتي إجابة سلوى بكر على سؤال "لماذا لا تكتبين القصص؟"، بين سطور قصتها التي قرأتها في مجلة "العربي" قبل ربع قرن. أُعيد قراءتها مجدداً، وأبتسم فيما أقرأ معاناة "مدام ناهد" مع صعوبة الحصول على وقت تخلو فيه إلى نفسها، لتكتب قصة طلبها أحد المنتجين. وبين ضرب العيال واحتراق الطعام والتقصير في العمل، تسير أحداث القصة التي تنتهي بسؤال آخر: لماذا لا يكتب زوجها القصص؟
قصة سلوى بكر تضرب عرض الحائط بضرورة الغرفة والدخل المنتظم. فالفوضى والأعمال المنزلية التي لا تنتهي، لإمرأة من الطبقة المتوسطة مع أطفال وزوج غير متعاون، لن تجدي معها أي قواعد. ولو أن فرجينيا وولف تعيش هنا الآن في سوريا، بيننا، لأدركت أيضاً أن الأمر أكثر تعقيداً بكثير. غالبية العائلات هنا تتكوم في غرفة واحدة شتاءً، غرفة بالكاد يستطيعون تدفئتها وإضاءتها.
أتمنى أحياناً أن أُلقي بنفسي على كومة قش، كما تمنت مدام ناهد في القصة، أن أستريح أثناء النهار الذي يبدأ وكأنه قطع بازل مبعثرة للوحة لا تكتمل إلا في نهايته.
أشعر بالبرودة تسري في يدي وأنا أغير الضماد الكحولي، يا تُرى لو جاز لي أن أُغير أمراً في قصة سلوى بكر! لاستبدلت السؤال الذي تختم به قصتها، "لماذا لا يكتب زوجها عبد العزيز القصص؟"، بسؤال آخر: لماذا لا يقرأ الأزواج القصص؟