عندما اعتذرتُ بالانكليزية كامرأة متحضرة
ما هي هذه الرائحة المنبعثة من المعادن المصهورة والغبار وبقايا الأجساد المحترقة؟ لا أستطيع أن أرى الصورالمباشرة من دون أن تزكم الرائحة المرعبة أنفي وتعيدني إلى بيروت 2006..
أتصل مذعورةً بأخي وأختي، أنا هنا في البعيد منهارة أكثر منهما. يخففان عني. يقولان بأنهما مثلي يشاهدان الصور في التلفزيون. أحاول إقناعهما بترك البيت على أطراف الضاحية الجنوبية، فيقول أخي: "إلى أين؟" أردّ: "أي مكان آخر"، ثم أفكّر: هل هناك مكان آخر؟ منذ سنوات ونحن ننتظر لمّ شمل العائلة، منذ سنوات والروتين الإداري يضع إخوتي في حالة حياة معلّقة، منذ سنوات وجزء كبير مني ما زال مسجوناً هناك. يردّ صوت أخي الأصغر الذي عايش أبي سنوات أقل مني، أنا الفتاة البكر: "أبي لم يترك البيت في الحرب الماضية". البيت، البيت، آه يا أخي لو تعلم كم مرة أعيد بناء هذا البيت: في اجتياح 1982، حين رست السفن الحربية بنيرانها المستعرة على الشاطئ القريب، وفي حروب التقاتل الداخلي حين نخر الرصاص جدرانه، وحتى حين بسطت الدولة "سلطتها" بعد الحرب فهدَمت جزءاً منه بحجة عدم حيازة رخصة بناء... نعم يا حبيبي، الفقراء ضحايا الحرب والسلم، المعارك والتسويات، ولذلك خرجت منذ سنوات طويلة. قطعتُ لساني وذاكرتي وجزءاً من قلبي، ثم أدرت وجهي كي لا يؤذي الدمع أبي الذي وقف يلوّح لي بيده الممدودة ونظراته الفارغة في المطار...
في إحدى ليالي القصف الطويلة من تموز 2006 البيروتي، وبعد شهر من اعتيادي الأرق، كتبت قصيدة بعنوان "القمر أول النفق"، ورددت فيها كثيراً بتفجّع: "يا ضاحيتنا". كانت حزينة ومؤلمة ومليئة بالخراب والدم والدمع، لدرجة أني أصبت بالحرج حينما طُلبت مني قراءتها هنا في أميركا، في قاعة مكيّفة فيها ناس "متحضرون" لا يفهمون من أين انفلت هذا العنف كله في الكتابة. وددتُ أن أعتذر لهم عن كوننا ضحايا، عن ألمّ الأجساد المنفلشة تحت مرأى العالم منذ 76 عاماً وأكثر. اعتذرت بالإنكليزية كامرأة متحضرة، شرحت كثيراً ما حدث، ثم قررت بعدها أن أصمت ولا أقرأ شيئاً من منبر، أن أبتسم فقط ببلاهة امرأة متحضرة تعتذر كلما مرّت قرب أحدهم، وتضحك في وجوه الكلاب المدللة.
لكن الحكاية باتت مضجرة ومكررة. ضجرنا من موتنا، ولم يشبعوا! وربما لأني بعيدة، أرى الحقيقة بوجهها المقيت: لا أحد يهتم حقاً. ما ينخر فينا ليس سوى خبر جانبيّ يترك بعض الأثر قبل أن يعود الناس إلى همومهم الصغيرة، تماماً كما نشاهد نحن حرباً في قارة بعيدة تنال من أشخاص لا نُجيد تهجئة أسمائهم. هم ينسون ونحن أيضاً نحتاج أن ننسى. الناس هنا طيبون، الناس هناك طيبون. فماذا يعني هذا الموت كله اذاً؟ ما الذي يقتلنا إن كان جو وجنيفر لا يعلمان؟
أقنع نفسي بأن الأنظمة الحاكمة لا علاقة لها بالمواطنين العاديين، معظم الناس لا يقبل الظلم، أقول لنفسي. يعود لي صوت الشاعرة العربية الأميركية، نعومي شهاب ناي، بشعرها الطويل ولكنتها المتقنة: "لو أن الناس يعرفون، ما كانوا ليقبلوا".
لكن يا لي من واهمة ساذجة وعاجزة عن الكره! لو أني كنتُ مؤدلجة، لكان كل شيء أسهل، كنت سأغمض عينيّ تاركة كل شيء لإله "نا" العادل كي يقتصّ من آلهة "هم" وشياطينهم على السواء. فماذا يفعل مَن لا يستطيع رؤية العالم بالأبيض والأسود؟ أين يذهب بعلامات الاستفهام التي تزدحم في رأسه الصغير حول أي شيء وكل شيء. من السهل أن أقول وأنا هنا: "لن ينالوا من إنسانيتنا! وسنصرّ على العيش رغم أنوفهم وأنوف آبائهم المؤسسين". من السهل أن أرى الحرب بمفعول رجعي، بينما يعيشها إخوة لنا بلحمهم ولحم أطفالهم.
أعود إلى صورة رشيدة طليب أثناء خطاب نتنياهو في الكونغرس، امرأة وحيدة وسط حشدٍ من المتعطشين للدم المتسلّحين بتفوقهم الأخلاقي! نعجة بين الذئاب يا أختي! ما نفع أن أطلق اللعنات كلها على هذا الغرب المتطوّر تكنولوجياً والساقط أخلاقياً؟ ما نفع أن أحبهم أو أكرههم؟ عيون الهنود الحمر تقول لي فقط: أهربي، أخرجي الآن يا أختنا. ويد أبي تُعيدني كل يوم إلى ساحة المعركة، ومعه ذاكرة عمر كامل من الموت والانبعاث، لن يمرّوا! لن يمرّوا حتى آخر قطرة من دمي! وفي الخلفية صوت "أبو عرب" المنبعث من كاسيت قديم يدور في مسجلّة أبي: ما نساكي يا دار أهلي ما نساكي يا دار، كني ّ بنسى دمي وجرحي بنساكي يا دار! أبي الذي لم يمت في كل الحروب وحافظ على روحه المرحة الساخرة ونفسه الطويل كالأبد... لن يمرّوا!
أتصل مذعورةً بأخي وأختي، أنا هنا في البعيد منهارة أكثر منهما. يخففان عني. يقولان بأنهما مثلي يشاهدان الصور في التلفزيون. أحاول إقناعهما بترك البيت على أطراف الضاحية الجنوبية، فيقول أخي: "إلى أين؟" أردّ: "أي مكان آخر"، ثم أفكّر: هل هناك مكان آخر؟ منذ سنوات ونحن ننتظر لمّ شمل العائلة، منذ سنوات والروتين الإداري يضع إخوتي في حالة حياة معلّقة، منذ سنوات وجزء كبير مني ما زال مسجوناً هناك. يردّ صوت أخي الأصغر الذي عايش أبي سنوات أقل مني، أنا الفتاة البكر: "أبي لم يترك البيت في الحرب الماضية". البيت، البيت، آه يا أخي لو تعلم كم مرة أعيد بناء هذا البيت: في اجتياح 1982، حين رست السفن الحربية بنيرانها المستعرة على الشاطئ القريب، وفي حروب التقاتل الداخلي حين نخر الرصاص جدرانه، وحتى حين بسطت الدولة "سلطتها" بعد الحرب فهدَمت جزءاً منه بحجة عدم حيازة رخصة بناء... نعم يا حبيبي، الفقراء ضحايا الحرب والسلم، المعارك والتسويات، ولذلك خرجت منذ سنوات طويلة. قطعتُ لساني وذاكرتي وجزءاً من قلبي، ثم أدرت وجهي كي لا يؤذي الدمع أبي الذي وقف يلوّح لي بيده الممدودة ونظراته الفارغة في المطار...
في إحدى ليالي القصف الطويلة من تموز 2006 البيروتي، وبعد شهر من اعتيادي الأرق، كتبت قصيدة بعنوان "القمر أول النفق"، ورددت فيها كثيراً بتفجّع: "يا ضاحيتنا". كانت حزينة ومؤلمة ومليئة بالخراب والدم والدمع، لدرجة أني أصبت بالحرج حينما طُلبت مني قراءتها هنا في أميركا، في قاعة مكيّفة فيها ناس "متحضرون" لا يفهمون من أين انفلت هذا العنف كله في الكتابة. وددتُ أن أعتذر لهم عن كوننا ضحايا، عن ألمّ الأجساد المنفلشة تحت مرأى العالم منذ 76 عاماً وأكثر. اعتذرت بالإنكليزية كامرأة متحضرة، شرحت كثيراً ما حدث، ثم قررت بعدها أن أصمت ولا أقرأ شيئاً من منبر، أن أبتسم فقط ببلاهة امرأة متحضرة تعتذر كلما مرّت قرب أحدهم، وتضحك في وجوه الكلاب المدللة.
لكن الحكاية باتت مضجرة ومكررة. ضجرنا من موتنا، ولم يشبعوا! وربما لأني بعيدة، أرى الحقيقة بوجهها المقيت: لا أحد يهتم حقاً. ما ينخر فينا ليس سوى خبر جانبيّ يترك بعض الأثر قبل أن يعود الناس إلى همومهم الصغيرة، تماماً كما نشاهد نحن حرباً في قارة بعيدة تنال من أشخاص لا نُجيد تهجئة أسمائهم. هم ينسون ونحن أيضاً نحتاج أن ننسى. الناس هنا طيبون، الناس هناك طيبون. فماذا يعني هذا الموت كله اذاً؟ ما الذي يقتلنا إن كان جو وجنيفر لا يعلمان؟
أقنع نفسي بأن الأنظمة الحاكمة لا علاقة لها بالمواطنين العاديين، معظم الناس لا يقبل الظلم، أقول لنفسي. يعود لي صوت الشاعرة العربية الأميركية، نعومي شهاب ناي، بشعرها الطويل ولكنتها المتقنة: "لو أن الناس يعرفون، ما كانوا ليقبلوا".
لكن يا لي من واهمة ساذجة وعاجزة عن الكره! لو أني كنتُ مؤدلجة، لكان كل شيء أسهل، كنت سأغمض عينيّ تاركة كل شيء لإله "نا" العادل كي يقتصّ من آلهة "هم" وشياطينهم على السواء. فماذا يفعل مَن لا يستطيع رؤية العالم بالأبيض والأسود؟ أين يذهب بعلامات الاستفهام التي تزدحم في رأسه الصغير حول أي شيء وكل شيء. من السهل أن أقول وأنا هنا: "لن ينالوا من إنسانيتنا! وسنصرّ على العيش رغم أنوفهم وأنوف آبائهم المؤسسين". من السهل أن أرى الحرب بمفعول رجعي، بينما يعيشها إخوة لنا بلحمهم ولحم أطفالهم.
أعود إلى صورة رشيدة طليب أثناء خطاب نتنياهو في الكونغرس، امرأة وحيدة وسط حشدٍ من المتعطشين للدم المتسلّحين بتفوقهم الأخلاقي! نعجة بين الذئاب يا أختي! ما نفع أن أطلق اللعنات كلها على هذا الغرب المتطوّر تكنولوجياً والساقط أخلاقياً؟ ما نفع أن أحبهم أو أكرههم؟ عيون الهنود الحمر تقول لي فقط: أهربي، أخرجي الآن يا أختنا. ويد أبي تُعيدني كل يوم إلى ساحة المعركة، ومعه ذاكرة عمر كامل من الموت والانبعاث، لن يمرّوا! لن يمرّوا حتى آخر قطرة من دمي! وفي الخلفية صوت "أبو عرب" المنبعث من كاسيت قديم يدور في مسجلّة أبي: ما نساكي يا دار أهلي ما نساكي يا دار، كني ّ بنسى دمي وجرحي بنساكي يا دار! أبي الذي لم يمت في كل الحروب وحافظ على روحه المرحة الساخرة ونفسه الطويل كالأبد... لن يمرّوا!