عدوّي الوقت

تيما رضا
الثلاثاء   2024/08/27
سلسلة "امرأة بيت" للأميركية الفرنسة لويز بورجوا
يتربص بي من بعيد، يعلم أني أهابه وأخاف مواجهته. أخاف مواجهة كل ما يمثل، أكثر مما أهاب السنين وعددها. أحاول التلاعب بها. ما إن يسألوني عن عمري حتى أسارع بالقول 29 والباقي خبرة. نكتة قد تبدو جيدة لمن يسمعها للمرة الأولى، إلاً أنها باتت سمجة بالنسبة إلي، أنا التي لم أعد أستطيع إقناع نفسي بأن نكتةً ما يمكنها أن تخفف وقعَ العمر عليّ.

العمر رقم، لكنه يعني لي الكثير. أتمنى لو أني أستطيع العودة بالزمن لأسلك مسارات مختلفة في محطات كثيرة من حياتي. رغبتي العارمة بإصلاح ما حدث، تعيق تركيزي على الحاضر والمستقبل. أنبّه نفسي إلى  ضرورة التركيز على المستقبل والحاضر كي لا يتحول بعد حين إلى لحظات ندم كالتي أعيشها على أحداث من الماضي القريب.

رهبتي من الوقت لا تقتصر على فعل السنين، فأنا أهاب أيضاً الأشهر والأسابيع والأيام. تصل علاقتي مع الوقت إلى احتساب الساعات والدقائق وحتى الثواني. كثير من التفاصيل العامة أعتبرها هدراً للعُمر. أكثر ما يزعجني الأرق، ساعات طويلة من التعب واليقظة، بحيث لا يستطيع جسدي تحمل فكرة أن يصحو ويتحرك ويُنتِج، ولا تتاح لي السيطرة على أفكاري لتسكن وتنام بهدوء.

لا ساعة حائط في بيتي. مراقبة الساعة بالنسبة إلي، تشبه الأفلام التي تتنبأ بنهاية العالم، بسيناريوهات مختلفة. أرفض مشاهدة هذه الأفلام بشكل قاطع، لأني قد أضطر إلى عيش مثل تلك اللحظات المأسوية، ولا أريد أن أعيشها تحت وطأة DEJA VU، أريدها أن تفاجئني علّها تنتهي أسرع.

لا ساعة حائط في غرفتي، وساعات اليد التي اقتنيتها كانت، إلى حد كبير، من نصيب الأدراج وعلب الأكسسوارات والمجوهرات، ومتى ارديتها عاملتُها كحلي وزينة على معصمي أكثر بكثير من تتبع الوقت الذي أسعى إلى فصل مساري عن مساره في كثير من الأحيان.

لا يمكنني النوم في منزل فيه ساعة لها عقارب ثوان تمعن في التكتكة، وكأنها عملية تنكيل عصبية مما يُستخدَم في تعذيب المعتقلين في سجون مفتوحة.

لم أتصالح يوماً مع الوقت، فهو إمّا قليل جداً عندما أحتاجه ولا أجد طريقة للتمديده، وإمّا طويل جداً جداً عندما أريده أن يتنهي كي أتخلص من فترة ما.

الوقت عدو ذكي، ما إن يشعر أنه تحت المجهر حتى يبدأ بالعمل بشكل معاكس. فهو إمّا سريع جداً أو بطيء جداً. لا معدل منتظماً للوقت. كون الساعة ستين دقيقة، والدقيقة ستين ثانية، هذا لا يعني أنه منتظم، بل غالباً ما يعمل بشكل معاكس تماماً للمزاج. ساعات الفرح لا تدوم، أمّا تلك الحزينة أو المؤلمة أو الحافلة بالانتظار فتدوم وتدوم وتدوم.

الثواني أخطر سلاح في عالم الوقت. في ثوانٍ قد تنعكس نتيجة مباراة مصيرية، أو صفقة كبرى، أو يختلف فحوى إعلان ما أو رسالة، أو ينجو أشخاص من موت محتم، أو العكس. كم يبلغ طول الثانية في أوقات الزلازل؟ كم يبلغ حجم الثانية الواحدة في أوقات الكوارث؟ الهامش المتحرك الذي يطبع دوران الساعة يبقى، رغم ثقله، أقل وطأة من توقفها.

للوقت حليف قوي. فالتكنولوجيا والهواتف الذكية والتطبيقات في تواطؤ مستمر مع الوقت. لا تكتفي بتذكيرنا بالوقت كساعات تمرّ، إنما تضعنا في مواجهة الـlast seen أو الظهور الأخير للآخر أونلاين.. عندما تتسمر الساعة هناك على شاشة ما، ويبدأ مرور الوقت دقيقة بعد أخرى، ثم ساعة بعد أخرى، يحيك وحدتك قطبة قطبة، فينسج منها قصة مثقلة بوطأة صعبة لعمر يمر... منتظراً!